سلسلة جروح كوزمولوجية
الجزء الخامس عشر: معرفة الذات، لا إنكارها
(يمكن العودة إلى الفهرس لقراءة الأجزاء السابقة على هذا الرابط)
* * *
كل أسرار الكون فيها...
حين سؤل الفيلسوف اليوناني أفلاطون، ما الذي يختصر كل الحكمة الفلسفية في العالم، أجاب بكلمتان فقط: “إعرف نفسك”. بهذا التعبير البسيط لخّص أب الفلسفة حكمة مدرسة إنسانية موغلة في القِدم، مدرسة ابتدأت مع بداية الوعي الإنساني نفسه وانطلقت من معرفة الذات، لا من إنكارها، كسبيل لفهم الكون والوجود. الذات البشرية في هذه الرؤية هي كون مصغّر، فهمها هو فهم للوجود نفسه، واختراق عباب ألغازها هو مدخلنا إلى الذات الأزلية اللانهائية التي تضخّ الحياة في قلب الكون.
معرفة الذات، الداخلية والخارجية، هي فلسفة ضرورية لعالم اليوم إن أراد الإنسان التغلّب على الجرح مع ذاته؛ لأن هذه المعرفة “الطبيعية” الخارجة عن نطاق الأيدولوجيا والخرافة هي وسيلتنا الأمثل لنكتشف كم أن هذه الذات الشاسعة داخلنا فيها كل الخير وكل الحقّ وكل الجمال ولا تعاني من نقص جوهري أو خطيئة أصلية أو تشوّه خلقي يستوجب شنّ حرب عليها. هذه الذات هي أجمل ترجمة للعقل الكوني المبدع، هي من نفس الجوهر الكوني المقدّس وشعاع لطيف منه، حتى ولو كانت أفعالها وأفكارها تحجب أحياناً كل هذا البريق…
هذا لا يعني أنه لا يجب الاعتراف بأن الإنسان له شوائبه، بل على العكس تماماً. الإنسان يغضب ويحزن ويفرح ويحبّ ويكره، يميت كما يحيي، ويخلق كما يدمّر. بتعبير الفيلسوف فريدريش نيتشه “الخليقة والخالق متّحدان داخل الانسان: الإنسان خليط من مادة وشظايا وزوائد وطين وروث وسخافة وفوضى؛ لكن في الانسان أيضاً مبدع ومصور وحدّة مطرقة وإله متفرّج ويوم سابع”.
إن الاعتراف بهذا التناقض داخل الإنسان هو جوهر الفلسفة التي تقوم على “معرفة الذات”. فلكي نتجاوز شوائبنا كبشر، علينا أولاً أن ندرك الطبيعة الحقيقية للإنسان وألا نقع في فخّ اعتباره ملاكاً بالفطرة أو شيطاناً بالولادة، هو ليس هذا ولا ذاك ولا حتى مزيج من الاثنين، هو أعقد من ذلك بكثير. معرفة الذات هي التي تتيح لنا فهم أنفسنا والتعامل معها، وربّما ستتيح لنا تجاوز نواقصها في يوم ما. لا يمكن التغلّب على أي شائبة في الذات البشرية عبر جلدها ورفضها وإنكارها والإغلاق عليها في مؤسسات دينية أو حتى أجساد ألكترونية باردة ورمي مسؤولية أخطائها على إبليس ما. هنالك كمّ هائل من العلوم الإنسانية والروحيّة والتأمليّة المتوافرة اليوم بين أيادينا والتي تقدّم لنا القدرة على فهم الذات وسبر أسرارها والارتقاء بها كما لم يسبق لنا من قبل، المهمّ هي النقطة التي ننطلق منها لأننا رأينا واختبرنا كم أن ذلك يؤثّر على علاقتنا مع ذاتنا ومع الآخرين (ونتائج عقيدة “النقص الجوهري” هي نموذج حيّ أمامنا).
الاعتراض على “النقص الجوهري” في الذات البشرية، لا يعني كذلك الاعتراض على مفهوم الخطأ في المطلق. وهنا نعيد لنقول أن الذات البشرية قادرة على ارتكاب الأخطاء وترتكبها دوماً، لكن علينا أن نحرّر مفهوم الخطأ من سطوة الثنائيات المطلقة للفلسفة الإبراهيمية. الإنسان يخطأ، هذا كل ما هو عليه الأمر، الأفعال الصغيرة التي نقوم بها كل يوم ليست جزء من معركة غيبيّة أزليّة بين الخير والشرّ.
...
تحرير مفهوم “الخطأ” من الثنائيات المطلقة يستوجب إعادة تعريفه، وهذا أمر سهل لأن الطبيعة تقدّمه لنا أينما التفتنا. الخطأ الحقيقي، ليس ما يسبّب تعارضاً مع نصوص كتبها بشر مثلنا، بل هو “ما يسبّب اختلالاً (أو أذية) في التوازن الطبيعي والكوني”. هذا التعريف للخطأ يخرجه من نطاق “العصيان” (عصيان الإله، رجاله، كتابه أو تعاليمه) ليضعه في نطاق “التناغم” الكوني والإنساني، أي الإطار الطبيعي والصحيح له. وهو بذلك يحرّره أيضاً من عباءة “الطاعة”؛ المفهوم الذي استعملته الفلسفة الإبراهيمية لفترة طويلة لضمان خضوع الناس لسلطة مفاهيمها (مثل الله) ومؤسساتها وطقوسها وقوانينها.
هذا التعريف أيضاً يغيّر الطريقة التي نتعامل بها مع نتائج الخطأ: مفهوم “المسؤولية”، لا مفهوم “التوبة” و”القضاء والقدر”، هو الوجه “التصحيحي” لأي خطأ. إذ بما أن من يخطىء، وفقاً لتعريفنا للخطأ، هو من يمسّ أو يؤذي التوازن الطبيعي القائم، سواء كان اعتداؤه يطال البشر أم يطال الطبيعة، فهو بالتالي مسؤول عن تصحيح خطئه عبر إعادة التوازن الذي فقد أو التعويض عنه. هذه النظرة ككل تضفي مرونة كبيرة على تعريفنا للخطأ والصواب بشكل يسمح لهاذين المفهومين بالتطوّر وفقاً للزمان والمكان والحاجات البشرية والبيئية المختلفة.
وفقاً لهذا المفهوم، نحن نخطأ، لا لأننا نعاني من نقص جوهري، ولا لأننا كاملين أيضاً بل لأن هذا جزء من طبيعتنا البشرية بكل بساطة. في فلسفتنا “الطبيعية”، الخطأ والتعلّم منه هو جزء جوهري من تجربتنا هنا في هذا العالم وهو أحد الأسباب الأساسية لوجودنا هنا أصلاً؛ من لا يخطأ لا يتعلّم ولا ينمو ولا يتقدّم ونحن هنا لنخطأ ونتعلّم وننمو ونتقدّم… وربّما سنتعلّم ونرتقي لدرجة أنه قد تنبت لنا أجنحة في المستقبل، من يعلم؟ لكن حتى ذلك الوقت، علينا أن نتذكّر أننا مجرّد بشر… وأننا من جوهر هذا الكون أيضاً، من جوهر الشمس والجبال والزهرة والمجرّات وكل شيء آخر؛ نحن ثالوث خلّاق من حيوان وإنسان وإله في الوقت نفسه. علينا قبول الأجزاء الثلاثة من دون إنكار لأي منها. لا يمكن لأجزاء منّا أن تحارب أجزاء أخرى فينا، لا يمكن لنا أن نحارب أنفسنا. جرحنا الثالث كان مع ذاتنا، فلنتذكّره جيداً…
الجزء الخامس عشر: معرفة الذات، لا إنكارها
(يمكن العودة إلى الفهرس لقراءة الأجزاء السابقة على هذا الرابط)
* * *
كل أسرار الكون فيها...
حين سؤل الفيلسوف اليوناني أفلاطون، ما الذي يختصر كل الحكمة الفلسفية في العالم، أجاب بكلمتان فقط: “إعرف نفسك”. بهذا التعبير البسيط لخّص أب الفلسفة حكمة مدرسة إنسانية موغلة في القِدم، مدرسة ابتدأت مع بداية الوعي الإنساني نفسه وانطلقت من معرفة الذات، لا من إنكارها، كسبيل لفهم الكون والوجود. الذات البشرية في هذه الرؤية هي كون مصغّر، فهمها هو فهم للوجود نفسه، واختراق عباب ألغازها هو مدخلنا إلى الذات الأزلية اللانهائية التي تضخّ الحياة في قلب الكون.
معرفة الذات، الداخلية والخارجية، هي فلسفة ضرورية لعالم اليوم إن أراد الإنسان التغلّب على الجرح مع ذاته؛ لأن هذه المعرفة “الطبيعية” الخارجة عن نطاق الأيدولوجيا والخرافة هي وسيلتنا الأمثل لنكتشف كم أن هذه الذات الشاسعة داخلنا فيها كل الخير وكل الحقّ وكل الجمال ولا تعاني من نقص جوهري أو خطيئة أصلية أو تشوّه خلقي يستوجب شنّ حرب عليها. هذه الذات هي أجمل ترجمة للعقل الكوني المبدع، هي من نفس الجوهر الكوني المقدّس وشعاع لطيف منه، حتى ولو كانت أفعالها وأفكارها تحجب أحياناً كل هذا البريق…
هذا لا يعني أنه لا يجب الاعتراف بأن الإنسان له شوائبه، بل على العكس تماماً. الإنسان يغضب ويحزن ويفرح ويحبّ ويكره، يميت كما يحيي، ويخلق كما يدمّر. بتعبير الفيلسوف فريدريش نيتشه “الخليقة والخالق متّحدان داخل الانسان: الإنسان خليط من مادة وشظايا وزوائد وطين وروث وسخافة وفوضى؛ لكن في الانسان أيضاً مبدع ومصور وحدّة مطرقة وإله متفرّج ويوم سابع”.
إن الاعتراف بهذا التناقض داخل الإنسان هو جوهر الفلسفة التي تقوم على “معرفة الذات”. فلكي نتجاوز شوائبنا كبشر، علينا أولاً أن ندرك الطبيعة الحقيقية للإنسان وألا نقع في فخّ اعتباره ملاكاً بالفطرة أو شيطاناً بالولادة، هو ليس هذا ولا ذاك ولا حتى مزيج من الاثنين، هو أعقد من ذلك بكثير. معرفة الذات هي التي تتيح لنا فهم أنفسنا والتعامل معها، وربّما ستتيح لنا تجاوز نواقصها في يوم ما. لا يمكن التغلّب على أي شائبة في الذات البشرية عبر جلدها ورفضها وإنكارها والإغلاق عليها في مؤسسات دينية أو حتى أجساد ألكترونية باردة ورمي مسؤولية أخطائها على إبليس ما. هنالك كمّ هائل من العلوم الإنسانية والروحيّة والتأمليّة المتوافرة اليوم بين أيادينا والتي تقدّم لنا القدرة على فهم الذات وسبر أسرارها والارتقاء بها كما لم يسبق لنا من قبل، المهمّ هي النقطة التي ننطلق منها لأننا رأينا واختبرنا كم أن ذلك يؤثّر على علاقتنا مع ذاتنا ومع الآخرين (ونتائج عقيدة “النقص الجوهري” هي نموذج حيّ أمامنا).
الاعتراض على “النقص الجوهري” في الذات البشرية، لا يعني كذلك الاعتراض على مفهوم الخطأ في المطلق. وهنا نعيد لنقول أن الذات البشرية قادرة على ارتكاب الأخطاء وترتكبها دوماً، لكن علينا أن نحرّر مفهوم الخطأ من سطوة الثنائيات المطلقة للفلسفة الإبراهيمية. الإنسان يخطأ، هذا كل ما هو عليه الأمر، الأفعال الصغيرة التي نقوم بها كل يوم ليست جزء من معركة غيبيّة أزليّة بين الخير والشرّ.
...
تحرير مفهوم “الخطأ” من الثنائيات المطلقة يستوجب إعادة تعريفه، وهذا أمر سهل لأن الطبيعة تقدّمه لنا أينما التفتنا. الخطأ الحقيقي، ليس ما يسبّب تعارضاً مع نصوص كتبها بشر مثلنا، بل هو “ما يسبّب اختلالاً (أو أذية) في التوازن الطبيعي والكوني”. هذا التعريف للخطأ يخرجه من نطاق “العصيان” (عصيان الإله، رجاله، كتابه أو تعاليمه) ليضعه في نطاق “التناغم” الكوني والإنساني، أي الإطار الطبيعي والصحيح له. وهو بذلك يحرّره أيضاً من عباءة “الطاعة”؛ المفهوم الذي استعملته الفلسفة الإبراهيمية لفترة طويلة لضمان خضوع الناس لسلطة مفاهيمها (مثل الله) ومؤسساتها وطقوسها وقوانينها.
هذا التعريف أيضاً يغيّر الطريقة التي نتعامل بها مع نتائج الخطأ: مفهوم “المسؤولية”، لا مفهوم “التوبة” و”القضاء والقدر”، هو الوجه “التصحيحي” لأي خطأ. إذ بما أن من يخطىء، وفقاً لتعريفنا للخطأ، هو من يمسّ أو يؤذي التوازن الطبيعي القائم، سواء كان اعتداؤه يطال البشر أم يطال الطبيعة، فهو بالتالي مسؤول عن تصحيح خطئه عبر إعادة التوازن الذي فقد أو التعويض عنه. هذه النظرة ككل تضفي مرونة كبيرة على تعريفنا للخطأ والصواب بشكل يسمح لهاذين المفهومين بالتطوّر وفقاً للزمان والمكان والحاجات البشرية والبيئية المختلفة.
وفقاً لهذا المفهوم، نحن نخطأ، لا لأننا نعاني من نقص جوهري، ولا لأننا كاملين أيضاً بل لأن هذا جزء من طبيعتنا البشرية بكل بساطة. في فلسفتنا “الطبيعية”، الخطأ والتعلّم منه هو جزء جوهري من تجربتنا هنا في هذا العالم وهو أحد الأسباب الأساسية لوجودنا هنا أصلاً؛ من لا يخطأ لا يتعلّم ولا ينمو ولا يتقدّم ونحن هنا لنخطأ ونتعلّم وننمو ونتقدّم… وربّما سنتعلّم ونرتقي لدرجة أنه قد تنبت لنا أجنحة في المستقبل، من يعلم؟ لكن حتى ذلك الوقت، علينا أن نتذكّر أننا مجرّد بشر… وأننا من جوهر هذا الكون أيضاً، من جوهر الشمس والجبال والزهرة والمجرّات وكل شيء آخر؛ نحن ثالوث خلّاق من حيوان وإنسان وإله في الوقت نفسه. علينا قبول الأجزاء الثلاثة من دون إنكار لأي منها. لا يمكن لأجزاء منّا أن تحارب أجزاء أخرى فينا، لا يمكن لنا أن نحارب أنفسنا. جرحنا الثالث كان مع ذاتنا، فلنتذكّره جيداً…