- سلسلة النضال السلمي: الطريق إلى الحريّة
الجزء الأول: لمحة تاريخيّة عن النضال السلمي
يعود تاريخ النضال السلمي إلى قرون طويلة ما قبل الميلاد. وقد تكون أوّل حركة احتجاجيّة سلميّة، مؤرّخة تعود إلى عام 494 قبل الميلاد، حين حجب العامة التعاون عن أسيادهم النبلاء الرومان.
هذه الحركة افتتحت عصراً جديداً من المواجهة السلميّة مع السلطة. أما القرن العشرون، فهو حافل بالثورات والحركات الاحتجاجيّة السلميّة التي راكمت تجربة إنسانيّة هائلة لمقاومة القهر، والظلم والاحتلال.
تعتبر الثورة الروسية عام 1905، أبرز الأمثلة على التجارب النضاليّة اللاعنفيّة في أوائل القرن العشرين. وفي أعوام 1908، 1915، و1919، قام الصينيون بمقاطعة المنتجات اليابانيّة احتجاجاً على احتلال اليابان للصين.
وفي عام 1923، استخدم الالمان المقاومة اللاعنفية ضد الاحتلال الفرنسي والبلجيكي للمنطقة رور Ruhr.
أما أربعينيّات القرن الماضي، فهي حفلت بالمقاومة السلميّة للاحتلال النازي، ما بين عامي 1940 و1945، من قبل الشعوب النروجيّة، الدنماركيّة، والهولنديّة. إضافة إلى استخدام النضال السلمي، في ربيع 1944، للإطاحة بالأنظمة العسكرية الدكتاتورية في السلفادور وغواتيمالا.
وفي عامي 1968 و1969، استطاع التشيكيين والسلوفاكيين، من إيقاف السيطرة السوفياتية الكاملة لمدة 8 أشهر باستخدام أساليب اللاعنف وعدم التعاون، عندما غزى حلف وراسو بلدانهم.
ومنذ عام 1980، ناضلت حركة التضامن في بولندا، عبر استخدام الاضرابات، من أجل الحصول على إنشاء نقابات عمالية قانونية حرة، وانتهى نضال الحركة عام 1989 بسقوط النظام الشيوعي في بولندا.
شعار حركة المقاومة السلمية الصربيّة تحوّل لرمز للحركات السلميّة في العالم. في الصورة: محتجّة مصريّة تحمل شعار حركة 6 ابريل التي اعتمدت شعار الحركة الصربيّة في نضالها ضد النظام الدكتاتوري
وفي الدول الخاضعة للأنظمة الشيوعية أيضاً، نجحت الأساليب اللاعنفيّة في إسقاط هذه الأنظمة في تشيكوسلوفاكيا عام 1989، وفي لاتفيا، ليتوانيا، استونيا والمانيا الشرقية عام 1991.
وفي عام 1986، سقط نظام ماركوس الدكتاتوري في الفيليبين تحت ضربات الانتفاضة الشعبيّة السلميّة التي خاضها الفيليبيين.
كما واستطاعت المقاومة الشعبيّة والمظاهرات السلميّة، ما بين الأعوام 1950 و1990، من تقويض سياسات الحكم العنصري في جنوب أفريقيا.
التجربة الغانديّة
تعتبر التجربة الغانديّة من أهم التجارب اللاعنفيّة في مقاومة الاحتلال والظلم. وهي خطت مبادىء اللاعنف الاستراتيجي، التي اعتمدتها لاحقاً الكثير من الحركات الاحتجاجيّة في نضالها ضد الدكتاتوريّات وجيوش الاحتلال. لذا، لا يغيب وصف المناضلين السلميين بالـ”غانديّة”، نسبة إلى مقاومة غاندي السلميّة. وهو يشكّل حالياً، أيقونة للمؤمنين باللاعنف كطريق للحريّة. وأيضاً قام كثيرون بوصف الانتفاضات العربيّة بالـ”غاندية الجديدة”، وذلك، للارتباط الوثيق، بالمفاهيم والأساليب النضالية، ما بين تجربة غاندي والتجارب العربيّة الحديثة.
“حملة الملح”، خطوة نحو الاستقلال
غاندي أثناء إحدى الاحتجاجات ضد الاحتلال البريطاني للهند
كثيرة هي المعارك التي خاضها غاندي ضد الاحتلال البريطاني، ولن يكون باستطاعتنا هنا التعرّض إلى كل المواجهات، بل سنشير فقط إلى “حملة الملح” التي خاضها غاندي، وذلك لأهميتها، ورمزيّتها، وكونها تُساهم أكثر في بلورة الفكرة التي نحن بصددها.
كان غاندي مؤمناً بأنّ الهنود لا يسعهم الاكتفاء بالرغبة في تحسين أوضاعهم، في ظل نظام السيطرة الإنكليزية، بل يُفترض بهم محاربة هذا النظام إلى أن تتم إزاحته. وعليه، بعد أسابيع من التفكير، قرّر غاندي أن يتحدى الاحتلال البريطاني عبر الاعتراض على قانون يُجبر الهنود على دفع ضريبة الملح.
قد يبدو القرار غريباً، كونه يُمثّل إصلاحاً صغيراً جداً، فيما كان “الوضع يتطلب القيام بثورة فعليّة”، على حد تعبير غاندي.
قُوبل هذا القرار بذهول كبير من قِبل قيادات حزب المؤتمر الذي كان يقوده. وطبعاً، سخرت سلطات الاحتلال من هذا القرار، ولكن سُرعان ما اضطر الاحتلال إلى الإقرار بفعاليّة القرار. لأنّ إجبار المزارع الهندي على دفع ضريبة لإحتلال خارجي من أجل تمليح طعامه، يحمل رمزيّة الهيمنة التي ترزح الهند تحتها.
إنّ البدء بالنضال من أجل إلغاء هذه الضريبة كان يعني التحدث بلغة واضحة وسهلة من الجميع. وهكذا، انتفض عشرات الآلاف من الهنود بشكل سلمي، وتكللت بالنجاح، وانتهت بمعاهدة وقّع عليها غاندي ونائب الملك. وهذه كانت أول خطوة أساسيّة في طريق استقلال الهند.
هكذا، جاء غاندي من مكان غير متوقّع، وصغير جداً، ليخوض نضاله ضد الاحتلال. فهو اعتمد استراتيجيّة تحقيق أهداف صغيرة في البدء، بدل وضع الأهداف الكبيرة، التي من الصعب تحقيقها من المعركة الأولى. وبانتصاره الرمزي على الاحتلال، شكّل رصيداً ساهم بانتشار أوسع للحركة الاحتجاجيّة بين أوساط الهنود. وهذا ما يُمكن إطلاق عليه تسمية “استراتيجيّة التصعيد السلمي”.
التجربة اللوثريّة
يشكّل نضال حركة الحقوق المدنيّة في الولايات المتحدة ضد التمييز العنصري تجاه الأميركيين من أصول أفريقيّة، والتي قادها القس مارتن لوثر كينغ، أبرز التجارب الحديثة التي شكّلت أيضاً نموذجاً يُحتذى به من قبل الحركات السلميّة في العالم.
العنصرية في “باصات مونتغمري”
خلال تلك الحقبة، كان الأفارقة الأميركيين يُعانون من التمييز العنصري في باصات مونتغمري، المدينة التي قدم إليها كينغ عام 1954. فقد كانت تخصص المقاعد الخلفيّة لذوي البشرة السوداء، في حين لا تسمح لغير ذوي البشرة البيضاء بالمقاعد الأماميّة. وكان من حق سائق الحافلة أن يأمر الركاب الأفارقة بترك مقاعدهم لنظرائهم من ذوي البشرة البيضاء، عدا السخرية منهم، والاعتداء عليهم أحياناً، دون أي سبب إلاّ لكونَ بشرتهم سوداء.
مارتن لوثر كينغ
هذا التمييز العنصري في باصات المدينة جعل كينغ يبدأ حركته الاحتجاجيّة من هناك. عبر مقاطعة الشركة المالكة لهذه الباصات، لعاماً كاملاً. وهذا ما دفعها إلى شفير الإفلاس، خصوصاً وأنّ 70% من ركّاب هذه الباصات هُم من الأفارقة الأميركيين. وبالتالي تأثر 70% من مدخول الشركة.
وبعد أحداث طويلة من الاعتقالات والمطاردات لكينغ ومناصريه، تقدّمت 4 مواطنات من أصول أفريقية إلى المحكمة الاتحادية، من أجل إلغاء التمييز في حافلات مونتغمري. أصدرت المحكمة حكمها التاريخي الذي ينص على عدم قانونية هذه التفرقة العنصرية. عندها، طلب كينج من الأفارقة الأميركيين أن ينهوا المقاطعة ويعودوا إلى استخدام الحافلات.
كما أنّ كينغ كان وكان واضحاً منذ البدء، أن حركة الاحتجاج لن تكتفي فقط بمطالبة إزالة التمييز العنصري الحاصل في وسائل النقل فقط، بل ستطالب بإزالته من المجتمع بأسره.
رغم التجارب النضال السلمي التي تقوم على ارث إنساني جذوره ممتدة في التاريخ، فإنّ العنف مازال يجد مكاناً له كوسيلة نضاليّة، ولكن هل فعلاً البندقيّة تقود إلى الحريّة؟ هذا ما سنُحاول الإجابة عنه في الحلقة القادمة.
المصدر : مدونة هنيبعل
فإن نطقت بخيـر فهو لشخصك إحسانا . . . وإن نطقت بشر فهو على شخصك نكرانا
وإن بقيت بين إخوتك فنحـن لك أعوانـا . . . وإن غادرت فنحن لك ذاكرين فلا تنسـانــا
خالد نصر
انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل