الموت يضع ترتيباً في القرابات.
برغم تلك العشرة, تعود فرانسواز غريبة, فموعدها الأخير مع زيان تمّ في المستشفى. بعدها أقلّتني إلى المطار بسيارتها, ودّعتني بمودّة لم تكن يوماً حباً, ومضت لأصبح, أنا الموجود في حياته مصادفة, كلّ أهله.
عرضت علي أن تحضر مراسم رفع الجثمان, لكنني بذرائع دينية كاذبة, أقنعتها بعدم الحضور. كنت أتوقع حضور حياة صحبة ناصر, وكنت أريد لجمالية ذلك المشهد التراجيدي ألا يفسده أحد علينا.
عندما انتهيت من تسجيل حقيبتي الصغيرة, بعد وقوفي طويلاً في طوابير الأحياء المتدافعين والمحمّلين بكل أنواع الحمولات وأغربها, من حرامات وطاولات كيّ وأحواض للورد وطناجر وسجاد وحقائب بؤس من كل الأحجام, عائدين بها كغنائم غربة إلى الوطن, ذهبت إلى حيث لا طوابير بشرية تزاحمني وحيث كل شيء سقط متاع, مذ أصبح فيها البشر هم الأمتعة و الحمولة التي تسافر مختومة ومرقمة مع البضائع في جوف الطائرة.
وقفت في تلك القاعة المخصصة لإيداع ما هو جاهز للشحن إلى كل الوجهات. في جهة منها كانت تتكدس الصناديق الضخمة التي تنقلها الآلات نحو الطائرات, ويهرع عمال بثيابهم الزرق وقبعاتهم الصفر لجرها في عربات مكشوفة, مما كان يحدث أحياناً أصواتاً قوية, ويترك جانباً من القاعة مفتوحاً لمجرى هواء جليدي. أحدهم نبَّهني أن أقصد الجهة الأخرى من القاعة, فقصدتها أنتظره.
ثمّ جاء..
هاهم يأتون به, غرباء يحملونه على أكتافهم, حلماً في تابوت من خشب, مكلَّلاً بكبرياء الخاسرين يجيء, له جنازة تليق بسخريته, أكاد أصيح بهم " لا تسرعوا بنعشه فتتعثرون بضحكته". هو المتئد المتمهل, لا تستعجلوه. هو الواثق كالتأمل, انصتوا لتهكمه وهو يعبر لوحته الأخيرة, يجتاز قدره من ضفة إلى أخرى, كما يجتاز جسراً, محمولاً من أناسٍ لا يدرون كم رسم هذا الممر.
وهو يبني جسراً. لا همّ للمهندسين إلا العبور الأمين, أما العبور الجميل, فيهندس جماله أو بشاعته مهندس أكبر, يملك وحده حقّ هندسة خطى القدر.
يا إله الجسور, يا إله العبور الأخير, لا توقظه. عاش عمره على سفر, حقّ له أن يستريح.
يا إلهة الأسرة, عابر سرير هو حيثما حلّ, فأهده راحة سريره الضيق الأخير.
وأنت يا إله الأبواب, لا قبور آمنة في انتظاره, فلا تدعهم يخلعون باب نومه.
في حضرته, اكتشفت أنني فقدت القدرة على البكاء, ولم يبق لي أمام الحزن إلا ذلك الأنين الأخرس للحيتان في عتمة المحيطات.
كان أمام الموت يفعل ما كان يفعله دائماً أمام الحياة: التهكم!
وعندما لم أجد في العين دمعاً يليق بسخريته, رحت أشاطره الابتسام.
فجأة لمحتها, كانت رفقة ناصر, جاءت. إذن جاءت. هي, أكانت هي؟ تلك المرأة القادمة بخطىً بطيئة يلفّ شعرها شال من الموسلين الأسود, مرتدية معطف فرو طويل, برغم البرد القارس, ما أحببت ترف حدادها الفاخر.
قبل أن تقترب, فكَّرت أن معطفها يساوي أكثر من ثمن تلك اللوحة, كان يكفي أن تستغني عنه ليشعر خالد الآن ببرد أقلّ.
كان يكفيها معطف داكن ووردة حمراء, لتصبح "نجمة" فهل ليس في خزانتها معطف بسيط يليق بفاجعة كبيرة؟
أقنعت نفسي بأنها لم تكن هي. حتماً كانت " نجمة", تلك الغريبة الجميلة الهاربة من القصائد والواقعة في قبضة التاريخ. مثلها كان لها كل وجوه النساء ولها كل الأسماء, إلا أنها اليوم خلعت ملايتها السوداء التي ارتدتها حداداً على صالح باي, وارتدت معطف فرو اقتناه لها أحد قطّاع طرق التاريخ.
من يحاسب زوجة قرصان إن هي ارتدت شيئاً من غنائمه؟
كانت تتقدم ببطء لا يشبه خطوتها, ألأن قدميها المخضبتين بالحناء تعبتا؟
منذ زفافها وهي تمشي كي تبلغ هذا الجثمان.
عرَّفني ناصر بأخته. كان أولى أن أعرفه بها. مدَّت يدها نحوي. المرأة ذات معطف الفرو, لم تقل شيئاً, عساها تخفي تردد أكفنا وارتباكها لحظة مصافحة.
ليس من أجل ناصر. بل من أجله هو, تحاشينا أن تطول بيننا النظرات. لم نكن نريد أن نشهده ميتاً على ما كان يعلمه حياً.
في حضرته, كنّا نتبرَّأ من ذاكرتنا العشقية, مستخفِّين بذكاء الموتى.
ضمَّني ناصر طويلاً إلى صدره. التصقت دمعة على خدِّه بخدي. قال كلمات في بياض الكوما, وبكى. بدا لي كأنه شاخ, كأنه هو أيضاً ما عاد هو, كأنه أصبح الطاهر عبد المولى. كانت هكذا ملامح أبيه كما خلَّدتها صور الثورة.
ناصر الذي رفض أن يحضر زفافها, يوم كان في قسنطينة, أيّ قدر عجيب جاء به من ألمانيا, ليحضر جنازة خالد هنا في باريس! أكان لقاؤنا حوله آخر رغبة أراد أن يخطفها من الفكّ الساخر للموت؟
موتاً مكثفاً في دقّته, مباغتاً في توقيته, ذكيَّا في انتقاء شهوده, حتى لكأنه وصية.
أشك أننا كنا جميعنا هناك في ذلك المكان مصادفة. في المصادفة شيء من الفوضى لا يتقنها الموت.
لا يوجد سوء ترقيم, ولا سوء تدبير في هذا العالم الجائر. يوجد ما يسميه رنيه شار في إحدى قصائده " فوضى الدقة". إنه الموت المشاغب الجبار, كما في تراجيديا إغريقية.
أيّ مأساة أن تخلف شيئاً على هذا القدر من الفاجعة! أيّ ملهاة أن تكون شاهداً عليه!
واقفين كنا أمام أسطورة رجل عاديّ, بأحلام ذات أقدار ملحمية.
رجل يدعى خالد بن طوبال. فمنذ اجتمعنا حوله استعاد اسمه الأول, وبهذا الاسم يعود إلى قسنطينة. الموت غيَّر اسمه وكشف أسماءنا.
أذكر يوم سألني بتهكم ذكيّ:
- خالد.. أما زلت خالد؟
مثله أكاد أسأل المرأة ذات المعطف الفرو:
- حياة.. أما زلت حياة؟
ذلك أنها مذ دخلت هذا المكان أصبحت " نجمة".
نجمة المرأة المعشوقة, المشتهاة, المقدسة, المرأة الجرح, الفاجعة, الظالمة المظلومة, المغتصبة, المتوحشة, الوفية الخائنة. " العذراء بعد كل اغتصاب", " ابنة النسر الأبيض والأسود" التي " يقتتل الجميع بسببها ولكنهم لا يجتمعون إلا حولها".
هي الزوجة التي تحمل اسم عدوك. البنت التي لم تنجبها. الأم التي تخلت عنك. هي المرأة التي ولد حبها متداخلاً مع الوطن, متزامناً مع فجائعه, حتى لكأنها ما كانت يوماً سوى الجزائر.
ذلك أن قصة " نجمة" في بعدها الأسطوري, كأحد أشهر قصص الحب الجزائري, ولدت إثر مظاهرات 8 مايو 1945 التي دفعت فيها قسنطينة والمدن المحيطة بها أكثر من ثلاثين ألف قتيل في أول مظاهرة جزائرية تطالب بالحرية.
كان كاتب ياسين يومها في عامه السابع عشر, يقاد مع الآلاف إلى السجن, وكان في طريقه إلى معتقله الأول يرى شباباً مكبَّلين تجرهم شاحنات إلى عناوين مجهولة, وآخرين يعدمون في الطريق بالرصاص.
وفي الزنزانة الكبيرة التي ضاقت بأسراها, كان العسكر يأتون كلّ مرة لاصطحاب رجال لن يراهم أحد بعد ذلك أبداً.
عندما غادر كاتب ياسين السجن بعد أشهر لم يجد بيتاً ليأويه. كانت أمه قد جُنَّت ظنّاً منها أنه قُتل, وأُدخلت إلى مستشفى الأمراض العقلية. قصد الشاب بيت خالَيْه المدرِّسَين فوجد أنهما قُتِلا,ذهب إلى بيت جدِّه القاضي فوجد أنهم اغتالوه,غير أنّ الطامّة كانت عندما علم أنهم في غيابه زوَّجوا ابنة عمّه التي كان يحبّها.
في لحظة سهو, اغتصبت تلك المعشوقة التي لن يشفى من حبِّها أبداً, عمراً من الهذيان أصبحت فيه " نجمة" كل النساء. فكلما سقط الحجاب عن امرأة في مسرحيات كاتب ياسين تظهر " نجمة" من تحت كل الملايات ومن تحت كل الأسماء.
ألم يقل في آخر عيد ميلاد له وبعد وفاة أمّه عن عمر إلتهم فيه الجنون الصامت 36 سنة من حياتها: " ولدت في 8 مايو 45 وقتلت هناك مع الجثث الحقيقية بجوار أمي التي انتهى بها الأمر في مصحِّ المجانين, ثم ولدت من جديد مع " نجمة", أحبها ذلك الحب الأول, الحب الموجع في استحالته, سعيد بحزني بها, أكتبها, لم أكتب سواها, كمجنون".
هو الكاتب المسرحي, لم يتوقع أن تلك المرأة التي أحبها منذ خمسين سنة, وما عاد يعرف ملامح شيخوختها, ستأتي لتحضر العرض الوحيد والأخير لمشهد موته, في مسرحية حياة بدأ فصلها الأول منذ نصف قرن يوم رآها.
فما كان ليصدق أن النص الأخير لأيّ مسرحيّ, يرتجله القدر, ووحده الموت يوزع فيه الأدوار على الناس بين متفرجين وممثلين, لا دقّات ثلاثاً تسبق رفع الستار, فالقدر لا ينبهك عندما يحين دورك ببدء المسرحية, لا في أية جهة من المسرح ستكون, ولا من سيكون الحضور يومها.
وهي, هي الباكية الآن باستحياء, المحتمية من الذاكرة بفروها, عندما زارت زيان في المستشفى وأهدته ذلك الكتاب, أكانت تدري أنها تهديه قدره, وتطلعه عليه كنبوءة؟
وعندما كتبت على الصفحة الأولى " أحببت هذا الكتاب, حتماً سيعجبك" ماذا كان في كتاب " توأما نجمة" ما تريد إطلاعه عليه, غير ذلك الموت الغرائبي لصديقه ياسين, وما كانت هي الروائية لتتوقع أنها مثل " نجمة" ستجد نفسها مصادفة تحضر المشهد الأخير لموت رجل عشقها ورسمها كمجنون, فسلَّمته للغربة والشيخوخة والمرض.
لم تفارقني فكرة تطابق الموقفين. مثل " نجمة", ما كان يمكن لحياة أن تحضر جنازة خالد لولا وجود أخيها. الفرق أنّ ناصر يقف هنا مع المشاهدين, بينما كان أخو نجمة مسجىً جوار حبيبها, في قاعة ترانزيت الأموات كهذه!
في ذلك الموت العجيب " الممسرح" لكاتب ياسين وابن عمّه مصطفى كاتب, شيء يتجاوز الخيال المسرحي نفسه. يزيد من غرابته أن الرجلين كانا رجلي مسرح. كان مصطفى كاتب الذي عرفته شخصياً مديراً للمسرح الوطني في السبعينات قبل أن يفتك به الداء. بينما كان كاتب ياسين يتزعَّم المسرح المعارض ويقدِّم عروضه بالعامِّية والأمازيغية في التجمعات العمّالية.
وإذا كان ياسين نحيلاً وعصبياً ويعرف جغرافية السجون والمعتقلات, ومن بعدها عناوين المصحّات العقلية والخانات, كان مصطفى كاتب تقيَّا ورصيناً ووسيماً وسامة أرستقراطية قسنطينية, زاده شعره الفضّي وابتسامته الهادئة تميّزاً.
وكانا بحكم اختلاف معتقداتهما ومزاجهما منقطعين عن بعضهما إنقطاعاً كأنه قطيعة. كلٌّ يدور في مجرته, حتى ذلك اليوم الذي جاء بهما الموت كلّ من مدينة ووضعهما متجاورين في قاعة كهذه في مطار مرسيليا قبل سفرهما الأخير إلى الجزائر.
لم يكن الممثلون هذه المرة على المنصة. كانوا في التوابيت. والذي كان يدير الممثلين في هذا المشهد الأخير كان خارج المسرح, فالفضاء المسرحي كان أكبر من أن يقدر على إدارته البشر. وهذه المرّة لم يكن من تنافس بين الممثلين, فالنجم الأوحد في مسرحية الموت, هو الموت, ولأنه لا مكان للتصفيق, لن ينهض الممثلان لتحية الجمهور قبل انسحابهما الأخير.
أليس القدر هو الذي جعل كاتب ياسين يموت في مدينة غرونوبل ( جنوب فرنسا) يوم 28 أكتوبر 1989 , وابن عمِّه مصطفى كاتب يموت بعده بيوم واحد في 29 أكتوبر في مرسيليا. حتى إن إحدى الجرائد عنونت الخبر " كاتب + كاتب = مكتوب".
هكذا جيء بجثمان كاتب ياسين إلى مطار مرسيليا ليتم نقله على الطائرة نفسها مع مصطفى كاتب.
يحكي بن عمار مديان في ذلك الكتاب كيف أنه وجد نفسه وهو الصديق الأقرب إلى كاتب ياسين والمرافق لجثمانه, شاهداً ومشاهداً ذلك الحدث العجيب الذي تحَّولت خلاله قاعة ترانزيت البضائع وتوابيت الموتى في مطار مرسيليا, إلى خشبة لا حدود لها ولا ستائر, كلّ شيء فيها حقيقيّ, وكلّ شيء شبيه بمسرح إغريقي.
شاهد فجأة امرأة تتقدّم بخطىً بطيئة داخل معطف غامق طويل, حاملة في يدها المختفية في قفَاز أسود, وردة ذات ساق طويل.
كان وجهها يختفي خلف نظارات سود, وقبّة المعطف التي كانت ترفعها, تخفي الكثير من ملامحها.
تقدَّمت المرأة نحو النعشين, وراحت تقرأ الاسم المكتوب على كلّ منهما. توقّفت عند التابوت الذي كان ينام داخله مصطفى, انحنت وقبَّلت طرف النعش, ثمّ, بدون أن تخلع قفّازيها, مرَّرت يدها على نعش ياسين في ملامسة سريعة للخشب. بقيت بعض الوقت ممسكة بتلك الوردة, ثم وضعتها على نعش أخيها مصطفى, وابتعدت.
كانت.. " نجمة"!
كأبطال الروايات والمسرحيات الذين يغادرون نصوصهم, ويأتون لوداع المؤلف, جاءت " نجمة", لكنها لم تكن هناك لوداع الكاتب الذي حوَّلها أسطورة, وإلى رمز لوطن. الشاعر الذي صنع من وجهها ألف وجه, ومن اسمها اسماً لكلّ النساء, وأدخل قصّتها في روائع الأدب العالمي.
جاءت لوداع أخيها. هي زليخة كاتب, في عامها السبعين, قد تكون نسيت منذ ذلك الزمن البعيد أنها" نجمة", فهي كانت تعيش باسمين, واحد للحياة والآخر للأسطورة. ولذا ما توقعت أن تقوم الحياة نفسها بتذكيرها أمام جثمان ياسين, أنها برغم شيخوختها, مازالت " نجمة".. فوحدها الأساطير لا تشيخ!
يا للحياة عندما تبدأ في تقليد المسرح حيناً, والأدب حيناً, حتى تجعلك لفرط غرائبيتها تبدو كاذباً.
من يصدق شيئاً غريباً عن امرأة كزهرة توليب سوداء, تدعى تارة حياة وتارة " نجمة". تأتي دائماً في آخر لحظة, في آخر مشهد, لتقف أمام نعش رجل توقف عن الهذيان بها لفرط ما انتظرها.
امرأة كأنها وطن, لا تكلِّف نفسها سوى جهد تمرير يدها بالقفاز على تابوتك, أو وضع وردة على نعشك في أحسن الحالات.
كم مرّة يجب أن تموت لتستحقّ دفء صدرها!
كنت أفكر في الكاتب الصوماليّ نور الدين فرح مبرِّراً هجرته المعاكسة من أوربا إلى أفريقيا قائلاً:" إني بحاجة ماسّة إلى الدفء, إلى هذا تحتاج الجثة". وأكاد أخلع عن تلك المرأة معطفها لأغطي به نعش خالد, في رحلة عودته إلى صقيع الوطن. أكاد أصرخ بها, لا تكوني " نجمة", استبقيه بقبلة, استبقيه بدمع أكثر, قولي إنك أحببته, انفضحي به قليلاً. هل أجمل من فضيحة الموت للعشّاق؟
ضعي يدك عليه, يدك التي تقتل, يدك التي تكتب, مرِّريها عند أعلى التابوت, كما لو كنت تدلّكين كتفه, هناك حيث مكمن يتمه.
لا تخافي عليه من فضيحة جميلة. لم يعد يخشى أحداً, ولا عاد معرّضاً إلى شيء. إنه معروض لفضول الأشياء. عيناه المغمضتان تحفظان السرّ, وقفصه الصدريّ الذي كنت عصفورته, موحش وبارد مذ غادرته , فغطيّه.
أيتها المتردِّدة ذعراً, إرمي بنفسك فوق هذا الصندوق الخشبيّ الذي يضمه كما كنت ترتمين طفلة صغيرة على حجره,يوم كان يلاعبك, يضمك إليه بذراع واحدة, يستبقيك ملتصقة إلى صدره.
هوذا ممدد أمامك.. من لك بعده؟ من كان لك سواه؟ إلثمي صندوقه.. إلثميه. سيعرف ذلك حتماً. لا تصدّقي أنّ الخشب غير موصل للحرارة,الموت لا يعترف بنظريات الكيمياء.
غافلي الأحياء, واختبري تلك الرغبات الأخيرة التي نسرقها من فوق جثة الموت, تلك القُبَل التي توقظ الجثث.
أنا الذي أعرف تماماً جغرافيتها, أعرف منطقتها البركانية, وتلك الزئبقية, وتلك الناريّة, كنت أكتشف مساحتها الجليدية, وتضاريس حزنها المدروس كي لا يتجاوز حدّه.
امتلكني يقين النهاية, وأنا أراها في حزنها الرصين ذاك.
أدركت أمام جليدها أنها هكذا ستواجه جثماني إن أنا متّ!
عندما انتهينا من قراءة فاتحة على روحه, ابتعدنا ثلاثتنا نحو ركن قصيّ من الصالة. اغتنمت الفرصة لأمدها بكيس فيه دفاتر صغيرة سجّل عليها زيان أفكاراً مبعثرة على مدى سنوات, وأوراق أخرى كان يحتفظ بها في ظرف, أظنها كانت لزياد, نظراً لصيغتها الشعرية المتقنة, ولاختلاف خطّها عن خطّ زيان.
وضعت أيضاً في الكيس كتابيها, بدون إهداء, كما احتفظ بهما زيان لسنوات, واضعاً سطوراً على بعض الجمل. ولم أنس طبعاً كتاب " توأما نجمة" كما أهدته إياه قبل أيّام في آخر زيارة لها.
هكذا أكون قسَّمت تركة خالد بين امرأتين, واثقاً بأن واحدة ستسارع بإلقاء معظمها في الزبالة, ولن تحتفظ سوى باللوحات لقيمتها الماديّة, وأخرى وقد فقدت اللوحات.. ستصنع من خسارتها كتاباً.
لم أحتفظ لنفسي سوى بساعته, غير واعٍ أنني سأقع في فخّ تلك الساعة في ما بعد , فكيف يمكن مقاربة الحياة انطلاقاً من الموت, لكأنّ عقارب الوقت التي وهبت سمّها لعقارب ساعتك, تدور ضدّك, وفي كلّ دورة تستعجلك الفناء.
قلت كما لأبرر لناصر مدِّي أخته بذلك الكيس:
- إنها بعض أوراق وكتابات تركها زيان, قد تستفيد منها السيدة حياة إن شاءت أن تكتب شيئاً عنه.
- لا تهتم ستتكفَّل الصحافة بعد الآن بتكفينه بورق الجرائد.
لم تفتح الكيس, ولا حاولت أن تلقي نظرة على محتوياته. حتماً لم تتوقّع موقفاً عجيباً كهذا, لكنّها توجهت إليَّ لأول مرة وسألتني:
- بالنسبة للوحاته, ماذا فعلتم بها؟
قلت:
-أظنها بيعت في معظمها.
قال ناصر:
- عندما أخبرتني بموته, أول فكرة خطرت ببالي بعد المكالمة, تلك اللوحة التي حكيت لي أنا ومراد كيف أقنعته أن يبيعك إياها. في البدء ظننتك مجنوناً لأنك دفعت فيها كل ما تملك, ثم بعد ذلك فكرت أن ثمة أشياء لا تعوّض ويجب على المرء أن لا يفكّر في الثمن عندما تعرض عليه.
سألت بفضول:
- عن أية لوحة تتحدثان؟
وقبل أن أرد أجاب ناصر:
- عن لوحة رسمها سي زيان في بداياته وكانت تعزّ عليه كثيراً.
إنها تمثّل جسر سيدي مسيد.
قالت بتهذيب يضع بيننا مسافة للبراءة الكاذبة:
- أتمنى أن أراها. أيمكنك أن تترك لي هاتفاً أو عنواناً أكاتبك عليه إن احتجت شيئاً في ما يخص أعمال زيان؟
كانت هذه آخر حيلة عثرت عليها لتطلب عنواني في حضرة أخيها , فهي تعرف عاداتي في الاختفاء المفاجئ من حياتها.
أجبتها بطريقة تفهم منها أنني لم أتغيَّر:
- آسف , فليس لي عنوان ثابت بعد- مضيفاً بعد شيء من الصمت- ثم إنني... بعت تلك اللوحة!
صرخ الاثنان بتعجب:
- بعتها؟ وعلاش؟
" وعلاش؟"
لم يكن المكان مناسباً لأشرح لهما " لماذا" بعتها. فقد يكون زيان يسترق السمع إلينا, وفاجعة واحدة تكفيه. ذلك أن السؤال سيتوالد ويصبح " كيفاش؟" و " بقداش؟" و " لشكون؟"
وبكم ليست شيئاً قياساً بلمن, فعندها سأصبح خائناً باع الجزائر والأمة العربية جميعها للغرب, وبسببي سقطت غرناطة وضاعت القدس, فحتماً ثمة مؤامرة حيكت ضد الأمة العربية, دبرها الرواق بالاشتراك مع المستشفى, خاصة أن معظم الأطباء هم من اليهود. وهل ما يحدث لنا منذ قرون خارج المؤامرة؟
كانا مازالا مذهولين ينتظران مني جواباً, ولم أجد شيئاً لأجيب به عن سؤالهما " وعلاش؟". فأحياناً يلزمك كتابة كتاب من هذا الحجم لتجيب عن سؤال من كلمة واحدة :" لماذا؟"
هل صدمها حقاً فقدان تلك اللوحة.. فأفقدتها الفاجعة صوتها!
أظنها كانت ستقول شيئاً, عندما علا صوت المضيفة على الميكروفون يطالب المسافرين إلى قسنطينة على متن الخطوط الجزائرية, الرحلة رقم 701, بالالتحاق بالبوابة رقم 43.
بدت كأنها وجدت في ذلك النداء ذريعةً للتأهب لمغادرة المكان, فما عاد ثمة ما يقال.
حضرني قول مالك حداد: " في محطات السفر والمطارات, مكبرات الصوت تق