نظرة في كتاب "صدام الحضارات" لهنتنغتون
أثار هذا الكتاب جدلا واسعا وتخوّفا ملحوظا في أصقاع الأرض ، فكرة الكتاب بدأت بمقالة فتسائل القراء عنها كثيرا فجعلها كتابا زاد في السؤال والإثارة ، هذا الكتاب العالَمي والذي يوحي عنوانه بالقلق لم تهمله ثقافة أو حضارة حيث استضيف هنتنغتون في أكبر الدولة التي هي معنية جدا بهذا الصدام وعقدت له مؤتمرات وندوات للحديث حول ذلك ، وترجم إلى 39 لغة .
انتُقد الكتاب والكاتب حيث إن هنتنغتون سياسي ومخطط استراتيجي وليس عالم تاريخ أو اجتماع ، والكتاب مرتبط بهذين العلمين ارتباطا وثيقا .
ولن أردد ما قاله منتقدوه بل سأطبع لك تصوري عنه محاولا تمييز الرديء من الجيد :
-هذا الكتاب عميق جدا وثقافي واستراتيجي وتنوّعي ويعتمد على دراسات وإحصاءات هامّة، والكاتب كثير الاستشهاد بأقوال الزعماء والمفكرين والمؤثرين مما يضفي على هذا الكتاب نوع من المصداقية والإنصاف .
-يصلح هذا الكتاب أن يكون أحد الروافد لثقافتك وانطباعك عن الأمم وفهم الواقع من حولك، وليس الرافد الوحيد لأنه يحتوي على بعض الأغاليط وقصور التصور وضعف في النتائج خاصة فيما يتعلق بغير الغربيين سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، ولكن في الإسلام يظهر هذا جليا .-الإسلام والمسلمون أحد الركائز وأحد المصادمين إن لم يكونوا أكبر مصادم للحضارة الغربية كما يرى هو ذلك .-أظن أن هنتنغتون مثله مثل كثير من الغربيين لديهم قصور في فهم حقيقة الإسلام وتاريخه ودولته، وهذا راجع لأسباب عدة :
1-اعتمادهم على غير مصادر المسلمين بل غالبا ما تكون مناوئة لهم من مستشرقين وما شابه .
2-التضليل الإعلامي الممارس عليهم في شيطنة الإسلام والمسلمين على مدى قرون .
3-الثأر من هذا الدين كونه زلزل الحضارة الغربية وهددها بالإبادة مرتين أو ثلاثة –كما اعترف هو بذلك- من جانب الدولة العثمانية التي حاصرت فيينا مرتين ، وكونه ما زال مهددا لها حيث المهاجرون المسلمون والتمدد السكاني الكبير لهم .
4-محاولة الحفاظ على تراث الفكر الغربي عن طريق إقصاء أي فكر ءاخر سواء أكان إسلاميا أم غير ذلك .. إلى غير ذلك من الأسباب .
- تحدث الكتاب عن بعض طبيعة الحضارات وعوامل القوة والضعف فيها ، بل عن الدول المعاصرة وكيف هزلت وكيف صعدت ومقارنا بينها وبين الدول الغربية من حيث الاقتصاد والقوة العسكرية والمركزية والنمو السكاني بإحصاءات تثير الدهشة خاصة تلك التي تتعلق في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث كانت الإشارة واضحة إلى ضعف أو توقف المد الغربي وصعود المد الآسيوي وعلى رأسه الصين ثم اليابان ثم سائر الدول الآسيوية والتي يراها تهديدا كبيرا للغرب لاقتصادها القوي والنامي والامتداد السكاني .
-بدا أن هنتنغتون مضطرب في بعض التصورات أو النتائج فهو مثلا يرى الإسلام ضعيفا أحينا ثم يراه أكبر مهدد للحضارة الغربية وما زال، وشموليا أحيانا ثم قاصرا في حين ءاخر ، ولعل هذا راجع لاختلاف المصادر التي يرجع إليها أو أنه حين تكلم على سجيته يظهر تحامله على الإسلام فإذا رجع للوقائع والمصادر ونقل عنها تناقض .مثلا يساوي بين البوسنيين وبين الصرب والكروات بل جعل البوسويين معتدين ابتداء ثم استحوذوا على السلطة البوسنوية انتهاءا مُقصين لغيرهم !
ثم بعد قليل يتحدث عن أن البوسنيين رأوا ازدواجية أمريكا في تعاملها مع المظلومين حيث لم تقف في وجه الصرب، ثم يتحدث عن جرائم ميلوسوفيتش القائد الصربي الذي تسبب في إبادات جماعية ! .. إلى غير ذلك .
-يحتوي الكتاب على فكر سياسي واجتماعي وسرد تاريخ أحيانا جميل جدا يأخذك إلى أن تواصل القراءة من غير انقطاع جزئي .فمثلا يرى الكاتب أن تشبه غير الغربي بالغربي باللباس والهيئة ونوع المأكولات والمشروبات والأفلام مرحلي سيزول بعد فترة من الزمان ما دام غير مقتنع بالفكر الغربي وآلياته، وأن على الغرب أن يطور تأثيره بالعالم وامتداده الثقافي ، وأن طبيعة الصراع الآني تفرض على كل مجتمع أن يعود إلى جذوره وأصوله وحضارته لأن بوادر الصراع القادم هي ثقافية حضارية بالدرجة الأولى وهو مضمون هذا الكتاب .
حيث يرى أن تفكك الاتحاد السوفييتي جعل من الصراع الايديولوجي بين الشيوعية والليبرالية منتهيا وظاهريا والصراع القادم هو صراع حضاري في الجانب الديني والأخلاقي لكل أمة، فالدول تتتابع في الانسلاخ من الغرب والبحث عن الهوية الحقيقة بعد ذهاب رونق وبريق الحضارة الغربية حتى صار غيرها ندا له ، بل إن هؤلاء المسلمين والصينيين والآسيويين يرون –كما يقول- أن حضارتهم أفضل من الحضارة الغربية وأولى وأن الصعود الاقتصادي الآسيوي ليس إلا بسبب الثقافة الآسيوية المنفردة لذا وجب على الغرب أن لا يفرض هيمنته وسلطته .
وأن أول صراع حضاري ديني كان في أزمة الخليج حيث وقف العالم الإسلامي كله والعربي –إلا قليلا- مع صدام –مع أنهم كانوا يرنه ظالما- في وجه الغزو الأمريكي .يليه الصراع البوسني مع الصربي والصربي مع الكرواتي ، فالبوسنة حيث الإسلام والصرب حيث الأرثوذكس والكروات حيث الكاثوليكية .وقد فصل الكاتب كثيرا حول هذا الصراع وكذا الصراع بين روسيا والشيشان والجمهوريات الإسلامية المحيطة به بل ربما جعلهما قاعدة لكثير من أفكاره وأطروحاته .
حيث رأى كيف أن البوسنيين المسلمين بالاسم والذين كانت أفعالهم توحي بأنهم علمانيين استيقظوا من غفلتهم وسباتهم واستحضروا الإسلام وشعاراته بعد العدوان عليهم ، وكيف وقف العالم الإسلامي معهم وكأن البوسنة أندلسا أخرى أو إسبانيا البلقان ، فجاء المدد التركي والسعودي والإيراني والماليزي وهو يتعجب من ذلك كيف أن المسلمين كلهم كانوا جسدا واحدا وأجمعوا أمرهم كله على نصرة البوسنة .. الأمر ليس مشابها تماما لوقوف الدول الأرثوذكسية مع الصرب والكاثوليكية مع الكروات .
الطرف المقابل للبوسنيين هم الصرب حيث استحضروا ثقافتهم ونادوا شركاءهم في الدين فأمدهم الروس واليونانيون والبلغاريون وسائر الدول في الحزام الأرثوذكسي .. في صراعهم مع البوسنيين وفي صراعهم أيضا مع الكروات .والكروات أمدتهم ألمانيا وفرنسا ضد الصرب وهو بذلك يخرج بنتيجة ورؤية وتقسيم للعالم : حيث يبعد الأرثوذكس بزعامة روسيا عن العالم الغربي –وإن كانوا أقرب من غيرهم- ويجعلهم قسما ءاخر مثل الصينيين والمسلمين والهندوس ، مؤكدا على ضرورة أن يكون الاتحاد الأوربي والائتلافات القادمة قائمة على الدول التي هي امتداد للفكر الكاثوليكي والبروتستانتي لا غير .. وهذا هو المضمون الآخر والثاني لهذا الكتاب ، فالغرب في نظره أمريكا والأروبيين الكاثوليك وهؤلاء المعوّل عليهم في ثبات الحضارة الغربية من السقوط والصراع القادم ..
ولا يرى في أمريكا اللاتينية تهديدا بل يمكن استيعابها كدول غربية ثم إدماجها في الاتحاد الأروبي .أيضا يؤكد على مبدأ صدام الحضارات وعلى حروب خطوط التقسيم الحضاري بالصراع الآرمني الأذربيجاني وأبعاده وأن الصراع يتكون من ثلاثة طبقات ، الطبقة الأولى هي المباشرة للصراع والمُشعلة له وهذا يمثل الآرمن والأذربيجان ، الطبقة الثانية هي صاحبة الدعم اللوجستي وهي الدول القريبة من هاتين فالآرمن أمدهم الصرب وجيرانهم بالعتاد والسلاح في المقابل أمدت إيران أذربيجان ، الطبقة الثالثة هي دول المركز وهي التي تكون واجهة دولية للصراع والتي تمتلك أحيانا حق الفيتو والتي تصنع السلام أحيانا عبر ضغطها على الطبقة الثانية لضرورة إرساء السلام أو إشعال الفتيل ، فتضغط الطبقة الثانية على الأولى وتكف الدعم عنها مما ينتج أن الطبقة الأولى المغذّية للصراع تُجبر على السلام كارهة كما في الصراع الأرميني الأذربيجاني تماما حيث اجتمعت روسيا الداعمة للأرمن وكلهم أرثوذكس مع تركيا الداعمة للأذربيجانيين واتفقوا على إحلال السلام فحل السلام . وهذا المبحث أحد المباحث الركيزة في هذا الكتاب .. ألا وهو تقسيم الصراع الواحد والبحث عن أبعاده وايديولوجياته .
-الإسلام مادة كبيرة في هذا الكتاب، والكاتب يرى أن حدود الإسلام وأحشاءه دموية وأن أكثر من نصف الصراعات في الأرض حاليا أحد طرفيها مسلم ، وأن الصراعات التي تأخذ منحى عنيفا أيضا يكون أحد طرفيها مسلم، وهذا قد يبدو صحيحا من حيث الإحصاءات والوقائع التي حددها .. غير أن الأسباب التي ذكرها والتي جعلت من الإسلام دمويا : كحبه للسيف وعدم تعايشه مع الآخر ورفضه للحداثة وأن محمدا قائد عسكري عنيف ليس مثل عيسى عليهما السلام كلها أغاليط وأكاذيب .
فالإسلام بلا شك توسّعي وجاء بالجهاد كي يفرض أمنه وأمانه !
أم هو حلال على أمريكا وأوربا الاستعماريتين حرام على الإسلام ؟أما عدم تعايشه فهو كذب ءاخر فالتاريخ يثبت أن المسلمين كانوا متعايشين مع اليهود والنصارى في بغداد ودمشق والمغرب وفي تاريخ الدولة الأندلسية شواهد كثيرة ، حتى اشتكى بعض المسلمين من تقريب الخلفاء لبعض اليهود ، فكان أحدهم مستشار الخليفة وطبيبه وجليسه وهذا يثبت أن المسلمين تجاوزوا بعض الشيء من فرط التعايش .بخلاف التاريخ الصليبي الدموي الذي طحن بعضه بعضا في العصور الوسطى وقبلها وطحن غيره من باب أولى خاصة طحنه لليهود ، وهذا التعايش الحاصل الآن في الغرب إنما هو تعايش بين العلمانية وبين الإسلام وسائر الديانات، نعم العلمانية التي كفرت بالكنسية وبالله واتخذت لنفسها طريقا مغايرا بعد بحار الدماء التي سالت ..والكاتب يؤكد على ذلك – من حيث تناقضه- حيث يقول إن الشعارات الدينية لدى الأروبيين ترجع مما أضعف التعايش مع المسلمين وغيرهم .. مما يدلل على ما ذكرت .
أيضا يتناقض في تصوره عن الإسلام ويخلط خلطا عجيبا حيث يؤكد توجه المسلمين إلى العلم وعدم رفضهم للحداثة بما فيهم "الأصوليون" وأنهم لا يرونه مناقضا لدينهم فهم يحاولون أحدثة الإسلام لا إسلام الحداثة .. وأن التقدم الذي حققته دول آسيا المسلمة وغير المسلمة تكذب المزاعم الغربية التي تخص التحضر بالجنس والفكر الأوربي .ونسي أن يذكر أن سبب هذه الصراعات هي تقسيم الدول الإسلامية وغيرها والحدود التي رسمها المستعمر والتي قصدت أن تغذي الصراع عبر تقسيم إثني .. إضافة إلى زرع النزاعات والشقاقات الداخلية ودعم الانقلابات العسكرية إلى غير ذلك مما يعلمه القاصي والداني من ازدواجية الغرب ونفاقهم المتعمد حتى يحولوا بيننا وبين أي نهضة ، بل كلام الكاتب يؤكد على ضرورة الهيمنة الغربية وهي رسالة غير مباشرة للغرب توحي بالإقصاء المتعمد لكل ما هو غير غربي .
أيضا نسي أن يذكر الحروب العالمية الطاحنة الأولى والثانية التي حدثت بين الجنس الأوربي "المقدّس" والتي كفرت بكل مبادئ الإنسانية والأخلاق ولو جُمع القتلى الذين سقطوا على أيدي المسلمين في تاريخهم كله لما وصلوا إلى العدد الذي قذفته حرب عالمية واحدة بينهم ! فكيف لو استحضرنا الأعداد من حروب الصراع التي قبلها ، حرب الثلاثين عاما بين فرنسا والنمسا ثم إسبانيا وحرب المئة عام بين فرنسا وبريطانيا ! فكيف لو استحضرنا قتلى المسلمين في الجزائر على يد الفرنسيين وفي ليبيا على يد الإيطاليين وفي أفغانستان والعراق على يد الأمريكان عدد ذلك كله بالملايين .أيضا نسي أن يذكر حضارة الإسلام التي كانت في ما قبل قرنين من الزمان في عهد الخلافة الأموية والعباسية والأندلسية ثم العثمانية وكيف حكمت الأرض وسنت القوانين وتعايش الناس !!-لا شك أن الحضارة الغربية الحديثة تتمتع بميزات نتجت عن هذه الصراعات فجعلتها رائدة في العلم والتكنولوجيا وليس سببه طبيعة الجنس الأوربي ونمط الحياة الاجتماعية والقوانين التي تحكمهم والإرث الإغريقي واليوناني والروماني بل هي مزيج من الموروث الجيد ومزيج من الحاضر الذي لفظ الموروث الرديء .
ومع هذا فهي مهددة –كما يقول الكاتب- نظرا للتفكك الأخلاقي وانحلال الأسرة وصعود آسيا والإسلام .أيضا يقول : غياب دولة –مركزية- للمسلمين يزيد من الصراع فتركيا وإيران والسعودية وباكستان تتنافس على الزعامة لكن ليس ثمة دولة مركزية يرجع إليها المسلمون وتحل إشكالاتهم وتمثلهم بين الأمم .
-الصين وقوتها اقتصاديا وعسكريا واليابان وحيادها وروسيا وطموحها ومركزية كل هذه الدول وتحالفاتها .. استطرد وأسهب في تفصيلها الكاتب بإحصاءات واعترافات ورؤى تجدر قراءتها وتقليبها .. هذا الحديث عن ميزان القوى والتحالفات أدق وأعمق ما في هذا الكتاب .-يرى الكاتب أن أمريكا أم الغرب وأنها مسئولة عن إعادة النظر في مواطن ضعفها وقوتها لتشكل تحالفا غربيا في وجه التحديات القادمة وإلا سقطت .. وسقط بسقوطها سائر الغرب، وأنه لا أقل إن لم يكن بالاستطاعة فرض الهيمنة التوازن مع الصين الصاعدة ، وأن هذا ممكن لفضل الغرب على الحضارة الحديثة ودينامية الفكر الغربي .
- انقسم العالم تجاه الحضارة الغربية ثلاثة أقسام : الكمالية التغريبية والتحديثية والصدام ، الكمالية نسبة إلى كمال أتاتورك الذي طمس معالم الإسلام والعثمانية وتجه نحو الغرب ينشد التقدم فكانت عاقبة مشروعه الفشل وتمزق هذه الدولة ثقافيا، أحكم قبضته زمنا من الدهر ولكن سرعان ما رجع الشعب إلى حضارته الأولى وثقافته وهويته وهذا يؤكد طرح هنتنغتون ، وكمال أتاتورك ليس وحيدا في هذا .أما التحديثية وهي أخذ حداثة الغرب دون التغريب فهي الأذكى والأجدر في النهوض وهو ما فعلته اليابان ومصر إبان حكم محمد علي باشا وغيرهم .
ماليزيا في عهد كمال أتاتورك كما يقول مهاتير لما أردنا أن نصلي اتجهنا نحو القبلة ولما أردنا أن نبني دولة حديثة اتجهنا صوب اليابان .أما الصدامية فقد حدثت من بعض الإسلاميين ابتداء أو "الأصوليين" كما يسميهم لكن هذا لا يمثل الإسلام بدليل أن الدول الإسلامية والشعوب الإسلامية حديثة، وربما كان الصدام ردة فعل بعض الدول ابتداء ثم ما لبثت أن انخرطت نحو التحديث أو التغريب .
-صدر هذا الكتاب عام 1996 ، كانت وفاة المؤلف في 2008 ، ويقال إنه له طرحا ءاخر خالف فيه بعض ما كتب هنا خاصة في كتابه الآخر "من نحن" والذي صدر في 2004.داود العتيبي
2013/8/30
@: