رسالة من المسجد الاقصى الى المسجد الحرام
د عبد الحليم عويس | 09-03-2010 23:22
- أخى.. المسجد الحرام.. أخى الأكبر والأعظم... يا أول مسجد بنى فى الأرض.
لقد وُلدْتَ مع مولد الإنسان... وأصبحت- أطال الله عمرك - مركز الأرض وقبلتها، وبيت الله الذى ترنو إليه أرواح المؤمنين وقلوب الأنبياء.
ولما تراكمت عليك أتربة (عصور الوثنية) أمر الله خليله إبراهيم أبا الأنبياء- بأخذ زوجته هاجر ورضيعها إسماعيل وتركهما- هكذا وحيدين إلى (جبال فاران وهى أرض مكة) تمهيداً لتحقيق أمر يريده الله، وهو إعادة العمران إلى هذه المنطقة من خلال ذرية أبى الأنبياء داعية الحنيفية السمحة الأول (إبراهيم) عليه السلام.
وما كان يملك إبراهيم إلا أن يطيع الله، ويأخذ زوجته هاجر ورضيعها، ثم يتركهما فى هذا المكان- من أجلك أنت يا أخى الأكبر... (يا أول بيت بنى لله فى الأرض) قائلا وهو ينظر إلى زوجته وابنها نظرة وداع كما حكى القرآن: {رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37).
والسؤال هنا: كيف عَرَفَ إبراهيم أن بيت الله الحرام فى هذا الوادى المجدب؟
وكيف ذلك وهو لم يؤمر بعد برفع قواعده قبل أن يدلّه الله على مكانه؟ هل كان يعلم بالجملة- وليس بالتحديد- أن أرض فاران هى أرض مكة التى فيها المسجد الحرام، أم أن الله قد أوحى إليه بذلك إجمالا ليطمئنه على مستقبل زوجته وابنه!!؟
****
وهكذا- أخى المسجد الحرام- رعاك الله عبر التاريخ.. إلى أن وجه إليك (أبا الأنبياء) وابنه (إسماعيل) ليعيدا إليك مكانتك حتى تعود محور التوحيد والحق والنور فى العالم.. وقد تعاون الوالد إبراهيم وابنه إسماعيل على إقامة قواعدك، وهما يدعوان الله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 127).
ولم يلبث أن جاء أمر الله لإبراهيم أن يؤذِّن فى الناس بالحج... كل الناس.. فى كل الأرض... بصوته المحدود... الذى بارك الله فيه فجعله أقوى من كل أجهزة الإعلام ووسائل الاتصال المعاصرة، حتى إن بعضهم ليقول إن هذا النداء وصل إلى القلوب والأرواح والأسماع معاً... فهو أعجب نداء إعلامى فى التاريخ، ولن تستطيع المدنية المعاصرة المغرورة أن تصل إلى هذا المستوى مهما فعلت، فذلك من علم الله وقدرته وحده سبحانه وتعالى.
أخى المسجد الحرام.. لقد استمرت حماية الله لك بعد ذلك، وأبقاك، وحفظك، وعظّم من عظمّك وشرَّف من شرفك وأكرم من أكرمك وجعل الصلاة فيك بمائة ألف صلاة... وهى مكرمة أنت جدير بها ولا تدانيها مَكرُمة، ولا يرنو إليها موقع فى الأرض!!
****
أما أخوك (المسجد الأقصى) فقد جاء بعدك، وهو مُقرّ بحقّك وسبقك فى الفضل والمجد.. وقد مرت بى- كما مرت بك- فترات تجاهل الناس فيها مكانتى، وتعرضتُ كما تَعرضَت مدينتى (القدس) لأنواع من التخريب والهدم على يد بختنصر، وسرجون، والقائد الرومانى (تيتوس) الذى دمّر معالم مدينتى سنة 70م، والقائد الرومانى (جوليوس سيفروس) الذى دمر القدس كلها وأقام بأمر الإمبراطور الرومانى (هدريان) مدينة جديدة فوق خرائبها سماها (إيليا كابيتولينا) التى عرفت باسم إيلياء بعد ذلك، ثم منع اليهود من دخول القدس نحو مائتى سنة، وظلوا لنحو عشرين قرنا لايدخلون القدس إلا أفراداً مستترين نتيجة غدرهم وعنصريتهم الدينية والعرقية، وافترائهم على الله وقتلهم الأنبياء والمصلحين..
وأخيراً.. مدَّ الله يد رحمته- كما فعل بك- فأرسل إلى مدينتى (القدس) أتباع خاتم الأنبياء.. وحامل راية الحنيفية على خطى أبويه إسماعيل وإبراهيم.. (محمد عليه السلام).. فوصل إلى حدود مدينة (القدس) صحابته (رضى الله عنهم) فى موقعتى أجنادين التى انتصر فيها المسلمون بقيادة خالد بن الوليد "27 جمادى الأولى 13 هجرية" "30 يوليو 634م) واليرموك بقيادة أبى عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد فى (5 رجب 15هـ - 12 أغسطس 636م). وهى المعركة الفاصلة التى انتصر فيها صحابة رسول الله انتصاراً ساحقاً، مع أنهم كانوا فى حدود ستة وثلاثين ألفا، بينما كان أعداؤهم الرومان فى حدود مائتى ألف، مع تفوق أعدائهم فى العُدة والتسليح وفى الموقع الجغرافى للمعركة..
وقد كان فتح المسلمين لبيت المقدس- بعد دخولهم الشام- فى يوم من أيام ربيع الآخر سنة 15هـ (أكتوبر 639م).. عودة لدورى فى نشر التوحيد والعلم الإسلامى.
****
وهكذا بدأتُ يا أخى الأكبر (المسجد الحرام) بداية جديدة، وبُعثتُ من جديد قلعةً للتوحيد والتسامح والإيمان... وأكرمنى الله سبحانه فجعلنى أولى القبلتين لرسوله الكريم عليه السلام وللمسلمين.. ثم- بعد بناء المسجد النبوىّ الشريف- أضيف إلى ألقاب تشريفى لقب (ثالث الحرمين الشريفين) وجعل الله الصلاة فيَّ بخمسمائة صلاة.. وتنافس العلماء على زيارتى، وطلاب العلم على ساحات علمى، والخلفاء والأثرياء على بذل أموالهم وأوقافهم على توسعتى وإقامة أسباب ازدهارى...
****
وجاء العصر الحديث، وبدأ اليهود يسيطرون على أوروبا بالمال والإعلام.. وكانت (البروتستانتية) بقيادة مارتن لوثر مذهباً مسيحياً جديداً تأثر باليهودية وتعانق مع التوراة واعتمدها- بكل ما فيها من أكاذيب- مصدراً، فظهر ما يعرف (بالمسيحية الصهيونية) التى تؤمن بكل أحلام بنى إسرائيل التوسعية ومخططاتهم لحكم العالم... وكانت الثورة الفرنسية (1789م)- ثم حملة نابليون بونابرت على مصر سنة (1798م)- محطة من محطات إقامة المشروع الصهيونى انطلاقاً من فلسطين.. وأذاع (بونابرت) نداءه لليهود لمساعدته حتى يقيم لهم دولة صهيونية.
ومن هنا نجد الخونة والمنافقين العرب يسعون لتجميل صورة هذه الحملة التى ديست فيها المصاحف بالأقدام ودخلت خيولها الأزهر تقتل العلماء وتهين الأزهر العريق!!
وتوالت المؤامرات فى لندن، وسايكس بيكو، بعد أن كانت بريطانيا قد هيأت كل أسباب التمكين لليهود، ولم تكن المؤتمرات والمؤامرات إلا المظلة الدولية لجريمة إبادة شعب فلسطين وإحلال اليهود مكانهم.
- لقد كانت المصالح مشتركة- أو هكذا جعلها اليهود مشتركة- ليستنزفوا أوروبا وأمريكا- فقد اقتنع الأوربيون- بعد فشلهم فى الحروب الصليبية التى استمرت أكثر من قرنين- بضرورة إقامة حاجز بشرى يحافظ على الحروب والقلاقل بين العرب، ويمنعهم من التقدم والوحدة، وفى الوقت نفسه يتخلصون به من اليهود الذين كانوا يسمونهم (جراد أوروبا).. ويضربون اليهود بالعرب، فكلاهما يمثل مصدر قلق لهم.. اليهود لجشعهم الدنيوى، والمسلمون لحماستهم للإسلام، وتمسكهم بقرآنهم ودينهم القابل للانتشار..
- أما اليهود فكان هدفهم السيطرة على المنطقة العربية والحفاظ على تمزيقها وتخلفها، بل وتحقيق زيادة تمزقها وتخلفها؛ وحرمانها من الإبداع والبحث العلمى الحقيقيين...
- ومنذ مؤتمر (بال الصهيونى) بقيادة (هرتزل) فى سويسرا سنة 1897م.. والمشروع الصهيونى يشق طريقه عملياً بقوة، وبدعم بريطانى فاضح ودعم أوروبى أمريكى مستتر.. وكان لابدَّ من إسقاط دولة الخلافة العثمانية بقيادة الدونمى اليهودى (مصطفى كمال أتاتورك)، ومن منْحِ استقلال مزيف لعدد من الطامحين للحكم؛ الذىن يبدون استعدادهم لبيع دينهم وأوطانهم وحضارتهم فى سبيل السيطرة على مدينة أو عدد من المدن تسمى (دولة) يورثونها لأبنائهم ويعاملون رعاياها بقسوة تجعلهم أشبه بالعبيد، محرومين من كل حقائق التقدم، ومن العدالة، ومن الحرية الصحيحة والتدين الحقيقى، والتفكير فى إنقاذ الأمة..
- إن (وعد بلفور) بإقامة دولة يهودية فى فلسطين لم يصدر إلا بعد موافقة- كثيرين- بعضهم وافقوا علنا، وبعضهم سراً، بتواطؤ مرسوم، وبأساليب خادعة ماكرة تنتمى إلى مدرسة صانع الخونة (لورانس العرب اليهودى والجاسوس البريطانى).. الذى خدع كثيراً من باعة الدين والوطن!!
****
أخى الأكبر - بيت الله الحرام
- ها أنذا قد سردت لك رحلتى حتى انتهيت إلى هذا المصير، وأصبحت أعيش مأساة متجددة أعانى من آثارها فى كل يوم...
- إن الصهاينة اليهود يزلزلون الأرض من تحتى، لكى أتداعى وأسقط، ومنذ عشرات السنين، وهم يحاولون تغيير معالم مدينتى الإسلامية (القدس) ويهدمون بيوت الفلسطينيين من حولى ويبنون بيوتاً ذات طابع أوروبى يهودى، وكم حاولوا إحراقي... وكم قتلوا من المصلين الوافدين إلىّ مع فرض الترويع الدائم للزائرين لى...
ومع أنه لم يوجد فى جنباتى أى أثر يدل على وجود (هيكلهم) المزعوم، والمنسوب إلى سليمان عليه السلام، إلا أنهم دائبون على هدمى واقتحام حرمى؛ مركزين على حائط البراق الذى يسمونه حائط المبكى!!
أما المسلمون فهم بين باحث عن استسلام انهزامى يصيب من ورائه منصباً أو مالاً أو جاهاً، ويسمى نفسه (داعية سلام) ووسيطاً بين طرفين (السارق والمسروق) و(الظالم والمظلوم)، ويصف نفسه بالحكمة والتعقل والاتزان... لكن الناس يعرفون ما وراء الأكمة، ويعرفون أن الأمور مدبَّرةٌ بليل، وأن أجورها قد دفعها اليهود من قلب الأمة المسلمة ومن عرقها وأرضها... فاليهود إذا دفعوا من أموالهم قليلا حصّلوه كثيراً... أما باعة الدين والوطن فهم يخدعون أنفسهم بمعسول من القول يزورونه بواسطة من يزوِّرون لهم من السدنة والعبيد.
- فيا أخى العظيم "المسجد الحرام"..
أسألك بالذى جمع بينى وبينك فى أول سورة الإسراء، وبارك الأرض الطيبة من حولىّ أن تذكِّرَْ زائريك بي وبما أعانيه من أعداء الإسلام والمحسوبين على الإسلام... لا يكفينى مجرد الدعاء، فأنا أريد- مع الدعاء- جهداً يَبذلونه فى سبيل إنقاذى وإنقاذ القدس وفلسطين... وكلهم أدرى بما يستطيع أن يقدم لى.. أى لدنياه ولأخراه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه}...
> إن عليهم أن يكونوا سفراء إلى العالم الإسلامى ينقلون إليه- يابيت الله الحرام- ما أعانيه وما ينتظرنى إذا خانونى- لا قدَّر الله.
- قل لهم لقد جئتم هنا لتكونوا بعد عودتكم امتداداً لإبراهيم وإسماعيل ومحمد عليهم السلام.. لقد رفعوا قواعدى، ورفع الله بهم ذكرى، وأصبحتُ كعبة المسلمين فى العالم كله، وأصبح (الحج) إلىّ هوالركن الخامس للإسلام...
- فمن موقعى هذا، ومن مسئوليتى تجاه أخى الصغير (المسجد الأقصى) أُناشدكم أن تقولوا للمليار ونصف المليار مسلم عندما تعودون إليهم: كفاكم نوماً وغفلة وثقة فى أعدائكم، فمقدساتكم العظمى فى خطر... وقد (أزفت الآزفة)...
فجاهدوا فى الله (حق جهاده) هو اجتباكم... وهو سماكم المسلمين فإياكم والتفريط في حقى والمساومة على مستقبلى.. {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه}..ولسوف تسألون!!
*أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية
رئيس تحرير مجلة التبيان
د عبد الحليم عويس | 09-03-2010 23:22
- أخى.. المسجد الحرام.. أخى الأكبر والأعظم... يا أول مسجد بنى فى الأرض.
لقد وُلدْتَ مع مولد الإنسان... وأصبحت- أطال الله عمرك - مركز الأرض وقبلتها، وبيت الله الذى ترنو إليه أرواح المؤمنين وقلوب الأنبياء.
ولما تراكمت عليك أتربة (عصور الوثنية) أمر الله خليله إبراهيم أبا الأنبياء- بأخذ زوجته هاجر ورضيعها إسماعيل وتركهما- هكذا وحيدين إلى (جبال فاران وهى أرض مكة) تمهيداً لتحقيق أمر يريده الله، وهو إعادة العمران إلى هذه المنطقة من خلال ذرية أبى الأنبياء داعية الحنيفية السمحة الأول (إبراهيم) عليه السلام.
وما كان يملك إبراهيم إلا أن يطيع الله، ويأخذ زوجته هاجر ورضيعها، ثم يتركهما فى هذا المكان- من أجلك أنت يا أخى الأكبر... (يا أول بيت بنى لله فى الأرض) قائلا وهو ينظر إلى زوجته وابنها نظرة وداع كما حكى القرآن: {رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37).
والسؤال هنا: كيف عَرَفَ إبراهيم أن بيت الله الحرام فى هذا الوادى المجدب؟
وكيف ذلك وهو لم يؤمر بعد برفع قواعده قبل أن يدلّه الله على مكانه؟ هل كان يعلم بالجملة- وليس بالتحديد- أن أرض فاران هى أرض مكة التى فيها المسجد الحرام، أم أن الله قد أوحى إليه بذلك إجمالا ليطمئنه على مستقبل زوجته وابنه!!؟
****
وهكذا- أخى المسجد الحرام- رعاك الله عبر التاريخ.. إلى أن وجه إليك (أبا الأنبياء) وابنه (إسماعيل) ليعيدا إليك مكانتك حتى تعود محور التوحيد والحق والنور فى العالم.. وقد تعاون الوالد إبراهيم وابنه إسماعيل على إقامة قواعدك، وهما يدعوان الله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 127).
ولم يلبث أن جاء أمر الله لإبراهيم أن يؤذِّن فى الناس بالحج... كل الناس.. فى كل الأرض... بصوته المحدود... الذى بارك الله فيه فجعله أقوى من كل أجهزة الإعلام ووسائل الاتصال المعاصرة، حتى إن بعضهم ليقول إن هذا النداء وصل إلى القلوب والأرواح والأسماع معاً... فهو أعجب نداء إعلامى فى التاريخ، ولن تستطيع المدنية المعاصرة المغرورة أن تصل إلى هذا المستوى مهما فعلت، فذلك من علم الله وقدرته وحده سبحانه وتعالى.
أخى المسجد الحرام.. لقد استمرت حماية الله لك بعد ذلك، وأبقاك، وحفظك، وعظّم من عظمّك وشرَّف من شرفك وأكرم من أكرمك وجعل الصلاة فيك بمائة ألف صلاة... وهى مكرمة أنت جدير بها ولا تدانيها مَكرُمة، ولا يرنو إليها موقع فى الأرض!!
****
أما أخوك (المسجد الأقصى) فقد جاء بعدك، وهو مُقرّ بحقّك وسبقك فى الفضل والمجد.. وقد مرت بى- كما مرت بك- فترات تجاهل الناس فيها مكانتى، وتعرضتُ كما تَعرضَت مدينتى (القدس) لأنواع من التخريب والهدم على يد بختنصر، وسرجون، والقائد الرومانى (تيتوس) الذى دمّر معالم مدينتى سنة 70م، والقائد الرومانى (جوليوس سيفروس) الذى دمر القدس كلها وأقام بأمر الإمبراطور الرومانى (هدريان) مدينة جديدة فوق خرائبها سماها (إيليا كابيتولينا) التى عرفت باسم إيلياء بعد ذلك، ثم منع اليهود من دخول القدس نحو مائتى سنة، وظلوا لنحو عشرين قرنا لايدخلون القدس إلا أفراداً مستترين نتيجة غدرهم وعنصريتهم الدينية والعرقية، وافترائهم على الله وقتلهم الأنبياء والمصلحين..
وأخيراً.. مدَّ الله يد رحمته- كما فعل بك- فأرسل إلى مدينتى (القدس) أتباع خاتم الأنبياء.. وحامل راية الحنيفية على خطى أبويه إسماعيل وإبراهيم.. (محمد عليه السلام).. فوصل إلى حدود مدينة (القدس) صحابته (رضى الله عنهم) فى موقعتى أجنادين التى انتصر فيها المسلمون بقيادة خالد بن الوليد "27 جمادى الأولى 13 هجرية" "30 يوليو 634م) واليرموك بقيادة أبى عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد فى (5 رجب 15هـ - 12 أغسطس 636م). وهى المعركة الفاصلة التى انتصر فيها صحابة رسول الله انتصاراً ساحقاً، مع أنهم كانوا فى حدود ستة وثلاثين ألفا، بينما كان أعداؤهم الرومان فى حدود مائتى ألف، مع تفوق أعدائهم فى العُدة والتسليح وفى الموقع الجغرافى للمعركة..
وقد كان فتح المسلمين لبيت المقدس- بعد دخولهم الشام- فى يوم من أيام ربيع الآخر سنة 15هـ (أكتوبر 639م).. عودة لدورى فى نشر التوحيد والعلم الإسلامى.
****
وهكذا بدأتُ يا أخى الأكبر (المسجد الحرام) بداية جديدة، وبُعثتُ من جديد قلعةً للتوحيد والتسامح والإيمان... وأكرمنى الله سبحانه فجعلنى أولى القبلتين لرسوله الكريم عليه السلام وللمسلمين.. ثم- بعد بناء المسجد النبوىّ الشريف- أضيف إلى ألقاب تشريفى لقب (ثالث الحرمين الشريفين) وجعل الله الصلاة فيَّ بخمسمائة صلاة.. وتنافس العلماء على زيارتى، وطلاب العلم على ساحات علمى، والخلفاء والأثرياء على بذل أموالهم وأوقافهم على توسعتى وإقامة أسباب ازدهارى...
****
وجاء العصر الحديث، وبدأ اليهود يسيطرون على أوروبا بالمال والإعلام.. وكانت (البروتستانتية) بقيادة مارتن لوثر مذهباً مسيحياً جديداً تأثر باليهودية وتعانق مع التوراة واعتمدها- بكل ما فيها من أكاذيب- مصدراً، فظهر ما يعرف (بالمسيحية الصهيونية) التى تؤمن بكل أحلام بنى إسرائيل التوسعية ومخططاتهم لحكم العالم... وكانت الثورة الفرنسية (1789م)- ثم حملة نابليون بونابرت على مصر سنة (1798م)- محطة من محطات إقامة المشروع الصهيونى انطلاقاً من فلسطين.. وأذاع (بونابرت) نداءه لليهود لمساعدته حتى يقيم لهم دولة صهيونية.
ومن هنا نجد الخونة والمنافقين العرب يسعون لتجميل صورة هذه الحملة التى ديست فيها المصاحف بالأقدام ودخلت خيولها الأزهر تقتل العلماء وتهين الأزهر العريق!!
وتوالت المؤامرات فى لندن، وسايكس بيكو، بعد أن كانت بريطانيا قد هيأت كل أسباب التمكين لليهود، ولم تكن المؤتمرات والمؤامرات إلا المظلة الدولية لجريمة إبادة شعب فلسطين وإحلال اليهود مكانهم.
- لقد كانت المصالح مشتركة- أو هكذا جعلها اليهود مشتركة- ليستنزفوا أوروبا وأمريكا- فقد اقتنع الأوربيون- بعد فشلهم فى الحروب الصليبية التى استمرت أكثر من قرنين- بضرورة إقامة حاجز بشرى يحافظ على الحروب والقلاقل بين العرب، ويمنعهم من التقدم والوحدة، وفى الوقت نفسه يتخلصون به من اليهود الذين كانوا يسمونهم (جراد أوروبا).. ويضربون اليهود بالعرب، فكلاهما يمثل مصدر قلق لهم.. اليهود لجشعهم الدنيوى، والمسلمون لحماستهم للإسلام، وتمسكهم بقرآنهم ودينهم القابل للانتشار..
- أما اليهود فكان هدفهم السيطرة على المنطقة العربية والحفاظ على تمزيقها وتخلفها، بل وتحقيق زيادة تمزقها وتخلفها؛ وحرمانها من الإبداع والبحث العلمى الحقيقيين...
- ومنذ مؤتمر (بال الصهيونى) بقيادة (هرتزل) فى سويسرا سنة 1897م.. والمشروع الصهيونى يشق طريقه عملياً بقوة، وبدعم بريطانى فاضح ودعم أوروبى أمريكى مستتر.. وكان لابدَّ من إسقاط دولة الخلافة العثمانية بقيادة الدونمى اليهودى (مصطفى كمال أتاتورك)، ومن منْحِ استقلال مزيف لعدد من الطامحين للحكم؛ الذىن يبدون استعدادهم لبيع دينهم وأوطانهم وحضارتهم فى سبيل السيطرة على مدينة أو عدد من المدن تسمى (دولة) يورثونها لأبنائهم ويعاملون رعاياها بقسوة تجعلهم أشبه بالعبيد، محرومين من كل حقائق التقدم، ومن العدالة، ومن الحرية الصحيحة والتدين الحقيقى، والتفكير فى إنقاذ الأمة..
- إن (وعد بلفور) بإقامة دولة يهودية فى فلسطين لم يصدر إلا بعد موافقة- كثيرين- بعضهم وافقوا علنا، وبعضهم سراً، بتواطؤ مرسوم، وبأساليب خادعة ماكرة تنتمى إلى مدرسة صانع الخونة (لورانس العرب اليهودى والجاسوس البريطانى).. الذى خدع كثيراً من باعة الدين والوطن!!
****
أخى الأكبر - بيت الله الحرام
- ها أنذا قد سردت لك رحلتى حتى انتهيت إلى هذا المصير، وأصبحت أعيش مأساة متجددة أعانى من آثارها فى كل يوم...
- إن الصهاينة اليهود يزلزلون الأرض من تحتى، لكى أتداعى وأسقط، ومنذ عشرات السنين، وهم يحاولون تغيير معالم مدينتى الإسلامية (القدس) ويهدمون بيوت الفلسطينيين من حولى ويبنون بيوتاً ذات طابع أوروبى يهودى، وكم حاولوا إحراقي... وكم قتلوا من المصلين الوافدين إلىّ مع فرض الترويع الدائم للزائرين لى...
ومع أنه لم يوجد فى جنباتى أى أثر يدل على وجود (هيكلهم) المزعوم، والمنسوب إلى سليمان عليه السلام، إلا أنهم دائبون على هدمى واقتحام حرمى؛ مركزين على حائط البراق الذى يسمونه حائط المبكى!!
أما المسلمون فهم بين باحث عن استسلام انهزامى يصيب من ورائه منصباً أو مالاً أو جاهاً، ويسمى نفسه (داعية سلام) ووسيطاً بين طرفين (السارق والمسروق) و(الظالم والمظلوم)، ويصف نفسه بالحكمة والتعقل والاتزان... لكن الناس يعرفون ما وراء الأكمة، ويعرفون أن الأمور مدبَّرةٌ بليل، وأن أجورها قد دفعها اليهود من قلب الأمة المسلمة ومن عرقها وأرضها... فاليهود إذا دفعوا من أموالهم قليلا حصّلوه كثيراً... أما باعة الدين والوطن فهم يخدعون أنفسهم بمعسول من القول يزورونه بواسطة من يزوِّرون لهم من السدنة والعبيد.
- فيا أخى العظيم "المسجد الحرام"..
أسألك بالذى جمع بينى وبينك فى أول سورة الإسراء، وبارك الأرض الطيبة من حولىّ أن تذكِّرَْ زائريك بي وبما أعانيه من أعداء الإسلام والمحسوبين على الإسلام... لا يكفينى مجرد الدعاء، فأنا أريد- مع الدعاء- جهداً يَبذلونه فى سبيل إنقاذى وإنقاذ القدس وفلسطين... وكلهم أدرى بما يستطيع أن يقدم لى.. أى لدنياه ولأخراه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه}...
> إن عليهم أن يكونوا سفراء إلى العالم الإسلامى ينقلون إليه- يابيت الله الحرام- ما أعانيه وما ينتظرنى إذا خانونى- لا قدَّر الله.
- قل لهم لقد جئتم هنا لتكونوا بعد عودتكم امتداداً لإبراهيم وإسماعيل ومحمد عليهم السلام.. لقد رفعوا قواعدى، ورفع الله بهم ذكرى، وأصبحتُ كعبة المسلمين فى العالم كله، وأصبح (الحج) إلىّ هوالركن الخامس للإسلام...
- فمن موقعى هذا، ومن مسئوليتى تجاه أخى الصغير (المسجد الأقصى) أُناشدكم أن تقولوا للمليار ونصف المليار مسلم عندما تعودون إليهم: كفاكم نوماً وغفلة وثقة فى أعدائكم، فمقدساتكم العظمى فى خطر... وقد (أزفت الآزفة)...
فجاهدوا فى الله (حق جهاده) هو اجتباكم... وهو سماكم المسلمين فإياكم والتفريط في حقى والمساومة على مستقبلى.. {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه}..ولسوف تسألون!!
*أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية
رئيس تحرير مجلة التبيان