المحافظات المسرطنة مائياً في سوريا

لم يكن جديداً على محافظة السويداء أن تخرج منها ثلاث جنائز من ضحايا السرطان في يوم زيارتنا، ولم يكن جديداً أيضاً أن يراجع مشافي حلب وعياداتها 22 مريضاً سرطانياً بشكل يومي، ومن حي واحد فقط هو (كفر حمرة)، بحسب بحث سنأتي على تفاصيله.

وفي حمص، أصبح الطفل الذي يولد في محيط بحيرة قطينة حاملاً مؤهبات السرطان، ما دفع أحد الأطباء للقول (أصبحنا نتمنّى ولادة طفل خال من التشوهات أو مورثات السرطان).

أمّا في طرطوس، فإنّ عدد القرى المصابة بالسرطانات وصل إلى /464/ قرية، كانت أعلاها نسبة منطقة بانياس.

وعلى رأس الجميع تتربع دمشق وريفها كصاحبة أعلى ترتييب في الأورام الخبيثة، بحسب إحصاءات السجل الوطني للسرطان.

في هذه المحافظات الخمس- وفقاً لدراسات وأبحاث رصدتها مجلة (أبيض وأسود)- يشرب الناس مياهاً غنية بالمواد التي تسمى (المسرطنات المائية)، أو يأكلون فواكه وخضاراً تسرّبت إليها هذه المسرطنات، والتي هي: (النترات والآمونيا والمعادن الثقيلة).

دمشق وريفها: جائحة في دوما وحرستا:

في استقصاء خاص بمجلة (أبيض وأسود)، وبالعودة إلى سجلات مرضى السرطان في مشفى البيروني (الطب النووي سابقاً) عن ثلاثة أعوام (2004-2005-2006)، فإنّ دوما في ريف دمشق، تنال أعلى نسبة من مرضى السرطان في دمشق وريفها.

ويوضح الكيميائي أسعد الدخيل (مدير مخبر الفاو في مديرية الموارد المائية في دمشق وريفها) أن: (الدراسات التي قمنا بها، أثبتت ارتفاع مياه الآبار والمياه الجوفيه في ريف دمشق بالنترات والآمونيا والمعادن الثقيلة التي تؤسس لأمراض خطيرة وعلى رأسها السرطانات).

ويضيف الدخيل: (المئات من هذه الآبار تستخدم للشرب أو للري والنتيجة واحدة، لأن هذه الملوثات قادرة على الانتقال بشكل مباشر عبر الشرب، أو غير مباشر عبر الخضار والفواكه المروية بهذه المياه)، مؤكداً أنّ (محطة عدرا لمعالجة المياه، غير قادرة حتى الآن على تجنّب هذه العناصر الثقيلة، لأن محطة عدرا تعالج المياه بيولوجياً وليست مصممة لمعالجتها كيميائياً).

وقد كان الكيميائي الدخيل أحد أعضاء اللجنة التي حللت مياه ومزروعات في منطقتي دوما وحرستا أواخر العام 2004، وقررت إتلاف جميع المحاصيل الزراعية المأكولة التي زرعت ذلك العام.

مسرطنات للأطفال في الغوطة:

أثبتت دراسة أجرتها مؤخراً المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي بريف دمشق، ارتفاع النترات والآمونيا في مياه الغوطة وما تبقى من مياه نهر بردى وفروعه.

وفي الشهر الرابع من العام الحالي، تبين (وفقاً لدراسة مخبر الصحة المركزي) أن 42 بئراً في الغوطة الشرقية (دوما- حرستا- النشابية- الشيفونية- جرمانا- ضمير- عربين- المليحة- كفربطنا). ومن خارج الغوطة (السيدة زينب- ببيلا- سعسع- صيدنايا) ملوثة بالنترات، وكلها أعلى من 50 مغ/ل، الحد الأعلى المسموح به لمياه الشرب وفقاً للمواصفات السورية.

كما أثبتت تحاليل أجراها مخبر مراقبة نوعية المياه، أنّ هناك مؤشرات كيميائية لتلوث مياه ريف دمشق: (ارتفاع نسبة النترات والنتريت والآمونيا في عدد من الآبار المستخدمة للشرب، وخاصة في مناطق (الشوفانية، الريحان، عدرا، المليحة، يلدا وجرمانا)، والذي يصل أحيانا إلى 200مغ باللتر والتي تعتبر نسبة مرتفعة جداً قياساً بالمعايير المقبولة عالمياً) (بحسب المختصين في المخبر).

حيث تبلغ نسبة النترات (NO3) والنتريت (NO2) وحيث أنّ النسبة المسموح بها حديثاً لم تتجاوز (10 ملغ/ ليتر للنترات و3 ملغ/ ليتر للنتريت). فإن نسبة وجودها في مياه ريف دمشق والبالغة عشرين ضعفاً عن الحد المسموح به عالمياً، يؤدي بحسب دراسة (محكّمة علمياً) للدكتور عادل عوض من قسم الهندسة البيئية في جامعة تشرين: (إلى تشكل مركبات نتروزامين داخل جسم الإنسان، يكون معظمها قادراً على إحداث السرطنة، ومنها سرطان المثانة).

وجاء في دراسة لوزارة الإسكان عام 2004 إن (التركيز الزائد للنترات في مياه الشرب، يمكن أن يشكل خطورة على الصحة وخاصة صحة الأطفال الرضع والحوامل) وفي موضع آخر تتخوف الدراسة من تزايد خطر السرطان عند الإنسان جرّاء التشكل الداخلي المنشأ والخارجي لمركب (نتروزو) والذي يعد مسرطناً للحيوانات.

وتقول المهندسة ريم عبد ربه مديرة سلامة المياه: (دراسات عديدة أثبتت ارتفاع النترات والنتريت والآمونيا في مياه ريف دمشق) موضحة (أنّ إحدى الدراسات التي أشرفت عليها شخصياً، كانت بالتعاون مع جمعية الأمم المتحدة، أثبتت ارتفاع هذه النسب في منطقتين جرى اختيارهما كعينة وهما: الريحان ومنطقة الغزلانية).

لكن المهندسة عبدربه، تلفت إلى خطر لم يوجد له حل بعد، وهو: (ارتفاع منسوب المياه الجوفية الملوثة في ريف دمشق، والذي يهدد بانتقال هذه المياه الملوثة إلى دمشق ذاتها، ما لم توجد له حلول سريعة).

الزرنيخ ومشتقاته:

بحسب دراسة للدكتور جميل فلوح مدير الموارد المائية في دمشق وريفها، فإنّ تلوث المياه بالمعادن ثقيلة (كروم، رصاص، زرنيخ.. الخ) بلغ نسباً عالية تتجاوز النسب العالمية، وأشارت الدراسة إلى أنّ مصدره (رمي المخلفات الصناعية في المجاري العامة، ورمي الزيوت المعدنية والشحوم والمحروقات الناتجة عن صيانة السيارات).

وأوضحت الدراسة، أنّ هذه النسب تؤدي إلى (تلوث المياه بالفحوم الهيدروجينية، وهي مواد مسرطنة، وأيضاً استخدام منظفات كيميائية غير قابلة للتخريب يضر بنوعية المياه ويزيد سميته).

وقد حددت منظمة الصحة العالمية في إرشاداتها المعيارية لمياه الشرب، 23 مركباً غير عضوي صنفتها الوكالة الدولية لبحوث السرطان، على أنها مسرطنات إنسانية معروفة أو مسرطنات إنسانية محتملة أو ممكنة على التوالي ومنها: (الزرنيخ - الأسبستوس - الكروم VI - النيكل- البريليوم - الكاديوم - ثلاثي أوكسيد الآنتمون - البرومات - الرصاص) وبحسب الدراسة التي أجراها الدكتور عادل عوض من جامعة تشرين- فهو يرتبط بقوة مع حدوث سرطانات الجلد والرئة والكبد. و يذكر أنّ تركيز الزرنيخ القاتل في مياه الشرب، يؤدي لحدوث سرطان الجلد في مياه الشرب (1-14 % من هذه السرطانات تعتبر قاتلة).

ويؤكّد الدكتور أكرم الخوري مدير عام الهيئة العامّة للبيئة، أنّ (صب المخلفات الصناعية في الصرف الصحي أو مباشرة إلى باطن الأرض دون معالجة، أدى إلى وجود معظم هذه المعادن المسرطنة في المياه الجوفية في دمشق وريفها).

وفي المخبر الجرثومي بوزارة الصحة نتائج تحاليل عديدة مأخوذة من الشبكة الرئيسية بريف دمشق، (غير مقبولة جرثومياً) بسبب ارتفاع نسبة (الكوليفورم)، وهي المادة العضوية المسرطنة والمحرضة على السرطان، بحسب تصنيف المعايير الإرشادية لمياه الشرب والتي وضعتها حسب حماية البيئة الأمريكية (EPA).

حلب: مأساة اسمها كفر حمرة والليرمون:

في استقصاء قام به الخبير البيئي والنووي الدكتور محمد علي حورية، أثبت أنّ مياه أحد أحياء حلب ويسمّى (كفر حمرة) تحتوي على 19من المعادن الثقيلة التي تتسبب في سرطان المعدة والكولون، وفي استقصائه الخاص توصل الباحث إلى أنّ 22 حالة سرطان تراجع يومياً مشافي حلب وعياداتها من هذا الحي فقط.

ويوضح الباحث حورية أهم هذه العناصر المسرطنة الموجودة في مياه هذا الحي من حلب: (الزئبق، المنغنيز، الكادميوم، الكروم، النيكل، سيلينيوم، زنك، كوبال، الرصاص، ماليبيدونوم).

وفي دراسة قامت بها لجنة البيئة في محافظة حلب، اعتبرت أنّ منطقة كفر حمرة (إحدى المناطق الرئيسية الملوثة)، وعزت ذلك إلى: (وجود العديد من المنشآت الصناعية - حوالي 50 منشأة أغلبها مصابغ ومطابع)، ومنها ما هو مجاور للمناطق السكنية-تختلف المنشآت في درجة تلويثها للبيئة حسب نوع الصناعة- والملوثات الرئيسية الناتجة عن المنشآت الصناعية هي مياه محمّلة بالعناصر المعدنية والأملاح، وفق نتائج تحليل العينات-يتم في بعض المنشآت إجراء معالجة أولية للمياه، ولكن الكمية الأكبر يتم طرحها بدون معالجة في شبكة الصرف الصحي لقرية كفر حمرة.

ويؤكّد د. زاهر حاج إبراهيم رئيس دائرة الأمراض البيئية والمزمنة في مديرية صحة حلب، أنّه تلقى شكاوى عديدة من أهالي هذا الحي إضافة إلى منطقتي الليرمون والشيخ سعيد، تربط بين السرطانات في هذه المناطق وبين تلوث مياه الشرب أو ري المزروعات المأكولة، ويضيف: (مياه الشرب في هذه المناطق الثلاث مأخوذة من شبكة المياه الرئيسية لمدينة حلب، غير أنّها تعتمد أيضاً على خزانات منزلية أو آبار إرتوازية قد تكون ملوثة بالمياه الجوفية).

ورغم أنّ د. حاج إبراهيم يؤكد أن مؤسسة المياه على استعداد لتحليل العينات التي قد يأخذها المواطنون مجاناً، إلاّ أنّ المواطنين نادراً ما يفكرون في هذا الأمر، وفقاً لما أفادنا العديد منهم في كفر حمرة والليرمون.

وفي منطقة الليرمون أصبح العديد من القادرين على الحصول على ترخيص بئر ارتوازي، يستفيدون من بيع المياه (الملوثة) للسكان، ويؤكّد أحمد بكرو رئيس لجنة مسجد الليرمون (والذي يملك بئراً لبيع المياه تابعاً للمسجد): (تأتي مؤسسة المياه وتجري فحوصاً دورية)، لكنّه لا يقدّم أي نموذج من نتائج هذه التحاليل.

ويقول د. زين العابدين العلي- مركز الليرمون الصحي: (معظم الحالات التي تراجعنا تشكو من الإنتانات المعوية والمعدية والإلتهابات والإسهالات التي قد تكون أساساً لأورام خبيثة).

الشيخ سعيد: منطقة ملوثة بالمياه الصناعية: