نظرية الثورة العربية
د . عصمت سيف الدولة
الكتاب السادس :
( ص 153 ـ 161 )
ترى الماركسية أنه من الممكن أن نعرف الظواهر الاجتماعية و أن نكتشف قانون حركتها و أن نحدد خصائص مستقبلها على ضوء القانون الذي اكتشفناه .
كل هذا ممكن بشرط أن نطرح النظرة الميتافيزيقية و أن ننتهج الجدلية المادية إلى معرفتنا البحث العلمي .
و النظرة الميتافيزيقية ـ عند الماركسيين ـ تعني تلمس أسباب التطور في قوة خارج الظاهرة ذاتها .
إذا تجنبنا هذا وجدنا أنفسنا أمام الظاهرة الاجتماعية كما هي , و يسهل علينا أن نكتشف أنها تتطور طبقا لقوانين حتمية و مادية .
و مادية تعني أولاً أنها ليست من صنع قوة خارجة عن الطبيعة , و تعني ثانياً أنها غير متوقفة على إرادة الإنسان .
و قد اكتشف ماركس ـ هكذا يقولون ـ تلك القوانين و صاغها فيما يعرف بـــ ( المادية الجدلية ) .
و خلاصتها أن الطبيعة بما فيها الإنسان و المجتمعات تتطور طبقاً لقوانين أربعة : التأثير المتبادل ـ الحركة الدائمة ـ التغير المستمر ـ الجدل .
و الجدل ـ أهم تلك القوانين ـ يعني أن التطور لا يتم بالانتقال الميكانيكي من العلة إلى المعلول بل عن طريق الصراع بين المتناقضات الكامنة في الشيء ذاته , و الذي ينتهي بأن يخرج إلى الوجود ـ طفرة ـ شيء جديد مختلف نوعياً عن النقيضين , و إن كان هو ذاته يحتوي على بذور تناقض جديد لن يلبث حتى يصبح صراعاً ينتهي بطفرة , و هكذا في سلسلة من الصعود الدائم خلال الصراع الجدلي .
أغلب ما أنجزه الماركسيون , في أي ميدان , خلال قرن , ليس أكثر من تطبيق لهذه الكلمات و أكثر تراث الماركسية الفكري و الأدبي و الفني و الاقتصادي و السياسي و الثوري , ذلك التراث الذي يبهر الكثيرين , كان حصيلة معالجة الواقع على ضوء هذه النظرية البسيطة .
و تقوبم أية ( نظرية ) ماركسية خاصة ( المادية التاريخية , الصراع الطبقي . . . الخ ) متوقف على ما إذا كانت تلك الكلمات البسيطة صحيحة أم لا .
لأنها منهج الماركسيين للمعرفة , لأنها أساس الماركسية و جوهرها , لأنها مقياس الماركسيين عند تحديد موقفهم من الظواهر و الأشياء و القوى الأخرى و فيما بينهم .
و طبقا لهذا لا يمكن أن توجد اشتراكية عربية .
ذلك لأنه بالرغم من أن تلك النظرية الجدلية مطابقة تماماً , من حيث الحتمية و قوانينها و التطور الصاعد , لما قاله هيجل فيلسوف المثالية , إلا أنها متميزة عنه بما يعتبر حجر الزاوية فيها و هي أنها ( مادية ) , فالقوانين قوانين المادة , و الجدل جدل المادة , و ليس الفكر إلا انعكاساً لمنجزات التطور المادي , المادة هي العامل ( الأساسي ) في التطور و قائدته , هي تتطور أولا و الإنسان يتبعها إلى حيث هي متطورة .
فإذا أردنا أن نفهم حركة تلك المجموعة البشرية التي نتحدث عنها على هدي هذا المنهج المادي , لنحدد خصائص الاشتراكية التي تسعى إليها , فلنسقط أولاً ما يميز الناس كبشر من خصائص يقال لها قومية , و ما يصوغ أفكارهم من قيم يقال لها روحية , و لننظر في مضمون الحياة المادية التي يعيشونها , عندئذٍ سنكتشف أن أسلوب إنتاج الحياة المادية يتضمن عنصرين : أدوات الإنتاج و علاقات الإنتاج , و سنجد ـ بحكم منهجنا المادي الماركسي ـ أن أدوات الإنتاج تلعب الدور الأساسي في التطور فهي التي تحدد نوع العلاقات التي تربط البشر , و نوع الأفكار التي تدور في رؤوسهم , و تتحكم في اتجاهاتها , و تحدد لهم مستقبلهم , ونكون بهذا قد اهتدينا إلى مفتاح التطور لنرى أنه سائر على حيث يسير تطور أدوات الإنتاج . فإذا أردنا أن نعرف مستقبل تلك المجموعة البشرية التي تسعى إلى الاشتراكية , فلننظر أولاً في مدى ما وصلت إلي أدوات الإنتاج من تطور . فإن كانت في مرحلة الإنتاج الإقطاعي فمستقبلها إلى الرأسمالية . و إن كانت في مرحلة الإنتاج الرأسمالي فمستقبلها إلى الاشتراكية التي هي المرحلة الدنيا ـ أو الأولى ـ من الشيوعية .
كل هذا حتم . لماذا ؟
لنأخذ الرأسمالية مثلاً .
لأن النظام الرأسمالي ـ بدون توقف على إرادة الرأسماليين أو العمال أو أي إنسان ـ يتضمن تناقضا داخل أسلوب الإنتاج ذاته .
فمع أن عملية الإنتاج اجتماعية يسهم فيها الجميع بحكم أن الإنتاج في النظام الرأسمالي للبيع و ليس للاستهلاك الخاص , فإن علاقة الإنتاج لا تزال متخلفة إذ يملك أفراد قلائل أدوات الإنتاج ملكية خاصة .
هذا التناقض هو الذي يجعل جزءاً من قيمة السلع المنتجة يذهب إلى المالك مع أنه من حق العامل , و هو ما يسمى استغلالاً و هو لصيق بطبيعة التناقض الرأسمالي لم يختره أحد و لا يزول إلا بإزالة التناقض ذاته .
و لما كانت علاقة الإنتاج تابعة لتطور أدوات الإنتاج , لأن أدوات الإنتاج هي قائدة التطور كما عرفنا , فلا بد من أن تتحطم علاقة الإنتاج الرأسمالي لتلحق و تتسق مع تطور أدوات الإنتاج .
لا بد من أن تصبح علاقة اجتماعية لينتهي الاستغلال , و يتحقق هذا بإلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج . . . عندئذ يزول التناقض و ندخل مرحلة الاشتراكية .
و هكذا نعرف علمياً أن " الاشتراكية " هي إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج .
و أنه تسبقها مرحلة رأسمالية , لأن ترتيب مراحل التطور و تتابعها ذاته ذو سمة مادية بمعنى أنه لا يتوقف على إرادة الناس .
و لما كانت تلك هي خصائص الاشتراكية ( إلغاء الملكية الخاصة ) فهي لا تتغير تبعاً لأمزجة الناس أو لبيئاتهم أو لأممهم . أدوات الإنتاج هي أدوات الإنتاج في كل مكان . و الملكية هي الملكية في كل مكان . فالاشتراكية هي الاشتراكية في كل مكان .
فلا يقال بعد هذا أن ثمة اشتراكيات متميزة , فلا يقال ـ طبعاً ـ أن ثمة اشتراكية عربية . و إن قيل فهو فضح لافتقار تلك الدعوات لأي أساس علمي .
منطق أهم مميزاته أنه وضع موضع التجربة و مارس الملايين من البشر صنع الاشتراكية على أساسه المتميز : المادية .
غير أن تلك الممارسة ذاتها قد أسقطت المادية .
فبعد قرن من التقدم العلمي ـ منذ ماركس ـ ثبت نهائياً أن " المادة " ليست جدلية , أي أن حركتها تخضع لقوانين ميكانيكية ( كلاسيكية أو كوانطية ) و ليس للتناقض الداخلي . و ذلك " خطأ " لم يكن لماركس ذنب فيه . فإن عدم جدلية المادة حصيلة الإنجازات العلمية في ميدان البحث الذري الذي لم يعاصره ماركس . و في سنة 1962 نشر الاتحاد السوفياتي كتاباً جامعاً تضمنت طبعته الأولى الاعتراف بأن المادة تخضع في حركتها للقوانين الميكانيكية ثم حذف هذا من الطبعات التالية ( أسس الماركسية ـ اللينينية ) . . . و بعيداً عن كل هذا يستطيع أي طالب في مدرسة ثانوية أو في إحدى الكليات العلمية أن يسأل أستاذه : هل المادة جدلية ؟ و ستكون الإجابة في أغلب الأوقات ابتسامة ساخرة من سذاجة السؤال .
و بعد خمسين سنة من محاولة البناء الاشتراكي طبقاً للمنهج المادي , انتهت التجربة إلى نتيجتين : الأولى : أن المجتمعات المرشحة مادياً للاشتراكية لم تنتقل إليها و أن المجتمعات المحرمة عليها الاشتراكية طبقاً للمنهج الماركسي قد اندفعت إليها . مجتمعات في أوروبا و أميركا وصلت ذروة التطور الرأسمالي و بلغت فيها أدوات الإنتاج قدراً خيالياً من التقدم و مع ذلك لم تستطع تلك الأدوات القائدة الرائدة أن تجر الناس هناك إلى الاشتراكية , بينما مجتمعات أخرى في العالم الثالث غير مؤهلة ماركسياً إلا للإقطاع أو الرأسمالية , تولى الناس فيها قيادة تطورها متخطين مراحل كاملة متحدين أدوات إنتاجهم المتخلفة ليقتحموا الطور الاشتراكي . و لما أن حدث هذا لأول مرة في روسيا المتخلفة نظر إليه و فسر على أنه استثناء من النظرية . غير أن الأمر قد اطرد حتى أصبح الاستثناء الروسي قاعدة . و كاد يثبت للاشتراكية سمة جديدة , هي أنها وسيلة المتخلفين إلى التقدم . و استقر الأمر حتى سلم أغلب الاشتراكيين الماركسيين أنفسهم بإمكان التطور الاشتراكي عن غير الطريق الرأسمالي .
النتيجة الثانية : هي أن أصحاب هذا المنهج المادي غير قادرين بواسطته على الوصول إلى فهم موحد لنتيجة الممارسة . و قد أدى هذا ـ و لا يزال يؤدي ـ إلى تمزقهم أجنحة متقاتلة في بعض الأوقات من أول الجامدين نظرياً إلى الذين يقبلون حصيلة الممارسة البحتة و يتراجعون في كل خطوة عمل عن منطلقاتهم الفكرية .
من أين جاء الخطأ , أمن المنهج أم أن النظرية هي الخاطئة ؟
مهما يكن الرأي فقد كان لا بد من أن يعاد النظر في الموضوع كله للبحث عن علة هذه المفارقة : منهج واحد لا يستطيع أن يوحد أصحابه رأياً أو عملاً . و نظرية علمية لا تتفق مع منجزات العلم في القرن العشرين . و قاعدة لتغيير الواقع يأتي الواقع الذي يمارس على أساسها مخالفاً لها .
أما الذين قضوا حياتهم ثواراً مناضلين تحت لواء المادية الماركسية فقد كان صعباً عليهم أن يسقطوا اللواء الذي جمعوا حوله الجماهير , فانطلقوا يؤولون النظرية و يمدون أبعادها لتغطي حصيلة الممارسة الحية , أو يؤولون ظروف الممارسة و يهونون من قيمة الصدع بين النظرية و التطبيق . و نموذج هؤلاء اشتراكيو الاتحاد السوفياتي , مصدر أكبر حركة تراجع عن الماركسية و مراجعة لها . لأنهم أصحاب أغنى خبرة لصنع الاشتراكية على هدي الماركسية . أولئك الذين يقدمون لنا من حين إلى حين تلك المفاهيم الجديدة على الماركسية ( الطريق غير الرأسمالي ـ اشتراكية كل الشعب ـ دولة كل الشعب ـ استمرار الدولة بعد القضاء على الاستغلال ـ دور التراث الروحي الإيجابي في البناء الاشتراكي ـ قيادة الإنسان للتطور . . . الخ ) .
تلك المفاهيم التي تعجبنا , و نقبلها , و تكاد تكون الطريق الجديد للدعوة إلى الاشتراكية السوفياتية , غير أننا نتحدث عن المنهج . يجب ألا ننسى هذا و هذه الحصيلة الغنية , المقبولة , هي حصيلة الممارسة المتراجعة عن المنهج المادي الماركسي ، بمعنى أنها جاءت في الواقع خلافاً لأحكام النظرية الماركسية , و لم تكن ثمرة تطبيقها على ذلك الواقع , و هي هي
التي حملت الكثيرين من أبناء العالم الثالث خاصة على أن يرفضوا المنهج المادي الماركسي , محتجين في هذا بما ( استفادوه ) من التراث الماركسي ذاته , أي من حصيلة خبرة المجتمعات التي سبقتهم إلى بناء الاشتراكية طبقاً للنظرية الماركسية .
ذلك لأن الذين لا يربطهم بالماركسية رباط خاص , الذين يقدرونها كتراث و لكنهم لا يقدسونها , فأولئك أبناء العالم الثالث أصحاب القدر الأكبر من التجربة الحية التي أسقطت الأسس الفكرية للماركسية . السؤال الأول الذي طرحوه هو : إن قيمة أية نظرية علمية أن تجنب الذين يصنعون الحياة على هديها مفاجئات الممارسة , فإذا كانت حصيلة الممارسة قد جاءت على غير ما يتفق مع المنهج الماركسي فما فائدة الماركسية ؟
و إذا كانت المجتمعات التي قضت أجيالاً تحاول صياغة الحياة الاشتراكية طبقاً لذلك المنهج تتراجع عنه و تراجعه , فما الذي يبرر أننا ـ و نحن في أول الطريق ـ نأخذه و نهتدي به ؟
و لما كانوا غير متعصبين للماركسية أو ضدها فقد اتجهت جهودهم إلى المستقبل الاشتراكي على قاعدتين . الأولى على المستوى العملي , و هي قاعدة التجربة و الخطأ . فقد كان إلحاح المشكلات و رغبة الناس في التحرر و البداية المتخلفة , لا تسمح بأن يؤجل البناء الاشتراكي إلى أن يكون له منهج و نظرية . القاعدة الثانية على المستوى النظري و هي البحث عن علة قصور المنهج الماركسي لمحاولة تخطيه . لم يدينوا التجربة الرائدة , و لم يدينوا مراجعة أسسها النظرية , و لم ينكروا طموحهم بل تحدوا واقعهم و حاولوا صنع الحياة فيه من خلال التجربة و الخطأ , و في الوقت ذاته , بحثوا عن الثغرة في المنهج الماركسي فوجدوها : المادية .
و لعل الأمر ـ على المستوى النظري ـ أن يكون قد أخذ شكل الحوار الآتي :
من الذي فشل في الانتقال بالمجتمعات الرأسمالية النامية إلى الاشتراكية ؟ ـ الناس هناك . و من تحدى أدوات الإنتاج و تخطى الرأسمالية و اقتحم المرحلة الاشتراكية ؟ الناس هنا . من الذين يتراجعون عن الماركسية و يراجعونها على ضوء خبرتهم الطويلة في الاتحاد السوفياتي ؟ ـ الناس فيه . من الذي يقود التطور إذن و يحدد غايته و يحقق تلك الغاية ؟ ـ الناس في كل مكان . ما هو العامل ( الأساسي ) في التطور في أي مجتمع ؟
ـ الإنسان .
و أثار العالم الثالث حماساً بالغاً لاحترام الإنسان و الثقة فيه . و أقر له من خلال تجربته الذاتية , و التجربة الإنسانية عامة , بأنه العامل الأساسي القائد لعملية التطور . القائد الثائر الذي يستطيع أن يهزم الاستعمار بكل قواه المادية و هو لا يملك إلا إنسانيته . القائد القادر الذي يستطيع أن يحطم قيود التخلف و يلغي الاستغلال و ينتقل إلى الاشتراكية . و هو لا يملك أدوات إنتاج متطورة . القائد الواثق الذي بلغت ثقته بمقدرته أن يسقط المرحلة الرأسمالية كلها من تاريخه , و يصنع ذلك التاريخ كما يريد لا كما تريد أدوات الإنتاج المادي .
و كما يحدث عادة في غمرة الحماس اتخذ البعض من سقوط النظرية المادية الماركسية حجة لإسقاط النظرية عامة و الاستغناء عنها بالتجربة و الخطأ و ثقة الاشتراكيين بأنفسهم .
إلا أن هذا لا يمنع أن الحماس ـ و لو للإنسان ـ ليس منهجاً علمياً .
و لا بد , إن صح أن الإنسان يستأهل هذه الثقة , من أن يؤدي البحث العلمي إلى تأكيد موضوعي هادئ لها , أي لا بد من أن توجد النظرية التي تنتهي إلى أن الإنسان قائد التطور فعلاً , و أن يكون البحث العلمي الهادئ هو الطريق إلى اكتشافها , و إلا فإن الحماس لن يجدي شيئاً .
د . عصمت سيف الدولة
الكتاب السادس :
( ص 153 ـ 161 )
ترى الماركسية أنه من الممكن أن نعرف الظواهر الاجتماعية و أن نكتشف قانون حركتها و أن نحدد خصائص مستقبلها على ضوء القانون الذي اكتشفناه .
كل هذا ممكن بشرط أن نطرح النظرة الميتافيزيقية و أن ننتهج الجدلية المادية إلى معرفتنا البحث العلمي .
و النظرة الميتافيزيقية ـ عند الماركسيين ـ تعني تلمس أسباب التطور في قوة خارج الظاهرة ذاتها .
إذا تجنبنا هذا وجدنا أنفسنا أمام الظاهرة الاجتماعية كما هي , و يسهل علينا أن نكتشف أنها تتطور طبقا لقوانين حتمية و مادية .
و مادية تعني أولاً أنها ليست من صنع قوة خارجة عن الطبيعة , و تعني ثانياً أنها غير متوقفة على إرادة الإنسان .
و قد اكتشف ماركس ـ هكذا يقولون ـ تلك القوانين و صاغها فيما يعرف بـــ ( المادية الجدلية ) .
و خلاصتها أن الطبيعة بما فيها الإنسان و المجتمعات تتطور طبقاً لقوانين أربعة : التأثير المتبادل ـ الحركة الدائمة ـ التغير المستمر ـ الجدل .
و الجدل ـ أهم تلك القوانين ـ يعني أن التطور لا يتم بالانتقال الميكانيكي من العلة إلى المعلول بل عن طريق الصراع بين المتناقضات الكامنة في الشيء ذاته , و الذي ينتهي بأن يخرج إلى الوجود ـ طفرة ـ شيء جديد مختلف نوعياً عن النقيضين , و إن كان هو ذاته يحتوي على بذور تناقض جديد لن يلبث حتى يصبح صراعاً ينتهي بطفرة , و هكذا في سلسلة من الصعود الدائم خلال الصراع الجدلي .
أغلب ما أنجزه الماركسيون , في أي ميدان , خلال قرن , ليس أكثر من تطبيق لهذه الكلمات و أكثر تراث الماركسية الفكري و الأدبي و الفني و الاقتصادي و السياسي و الثوري , ذلك التراث الذي يبهر الكثيرين , كان حصيلة معالجة الواقع على ضوء هذه النظرية البسيطة .
و تقوبم أية ( نظرية ) ماركسية خاصة ( المادية التاريخية , الصراع الطبقي . . . الخ ) متوقف على ما إذا كانت تلك الكلمات البسيطة صحيحة أم لا .
لأنها منهج الماركسيين للمعرفة , لأنها أساس الماركسية و جوهرها , لأنها مقياس الماركسيين عند تحديد موقفهم من الظواهر و الأشياء و القوى الأخرى و فيما بينهم .
و طبقا لهذا لا يمكن أن توجد اشتراكية عربية .
ذلك لأنه بالرغم من أن تلك النظرية الجدلية مطابقة تماماً , من حيث الحتمية و قوانينها و التطور الصاعد , لما قاله هيجل فيلسوف المثالية , إلا أنها متميزة عنه بما يعتبر حجر الزاوية فيها و هي أنها ( مادية ) , فالقوانين قوانين المادة , و الجدل جدل المادة , و ليس الفكر إلا انعكاساً لمنجزات التطور المادي , المادة هي العامل ( الأساسي ) في التطور و قائدته , هي تتطور أولا و الإنسان يتبعها إلى حيث هي متطورة .
فإذا أردنا أن نفهم حركة تلك المجموعة البشرية التي نتحدث عنها على هدي هذا المنهج المادي , لنحدد خصائص الاشتراكية التي تسعى إليها , فلنسقط أولاً ما يميز الناس كبشر من خصائص يقال لها قومية , و ما يصوغ أفكارهم من قيم يقال لها روحية , و لننظر في مضمون الحياة المادية التي يعيشونها , عندئذٍ سنكتشف أن أسلوب إنتاج الحياة المادية يتضمن عنصرين : أدوات الإنتاج و علاقات الإنتاج , و سنجد ـ بحكم منهجنا المادي الماركسي ـ أن أدوات الإنتاج تلعب الدور الأساسي في التطور فهي التي تحدد نوع العلاقات التي تربط البشر , و نوع الأفكار التي تدور في رؤوسهم , و تتحكم في اتجاهاتها , و تحدد لهم مستقبلهم , ونكون بهذا قد اهتدينا إلى مفتاح التطور لنرى أنه سائر على حيث يسير تطور أدوات الإنتاج . فإذا أردنا أن نعرف مستقبل تلك المجموعة البشرية التي تسعى إلى الاشتراكية , فلننظر أولاً في مدى ما وصلت إلي أدوات الإنتاج من تطور . فإن كانت في مرحلة الإنتاج الإقطاعي فمستقبلها إلى الرأسمالية . و إن كانت في مرحلة الإنتاج الرأسمالي فمستقبلها إلى الاشتراكية التي هي المرحلة الدنيا ـ أو الأولى ـ من الشيوعية .
كل هذا حتم . لماذا ؟
لنأخذ الرأسمالية مثلاً .
لأن النظام الرأسمالي ـ بدون توقف على إرادة الرأسماليين أو العمال أو أي إنسان ـ يتضمن تناقضا داخل أسلوب الإنتاج ذاته .
فمع أن عملية الإنتاج اجتماعية يسهم فيها الجميع بحكم أن الإنتاج في النظام الرأسمالي للبيع و ليس للاستهلاك الخاص , فإن علاقة الإنتاج لا تزال متخلفة إذ يملك أفراد قلائل أدوات الإنتاج ملكية خاصة .
هذا التناقض هو الذي يجعل جزءاً من قيمة السلع المنتجة يذهب إلى المالك مع أنه من حق العامل , و هو ما يسمى استغلالاً و هو لصيق بطبيعة التناقض الرأسمالي لم يختره أحد و لا يزول إلا بإزالة التناقض ذاته .
و لما كانت علاقة الإنتاج تابعة لتطور أدوات الإنتاج , لأن أدوات الإنتاج هي قائدة التطور كما عرفنا , فلا بد من أن تتحطم علاقة الإنتاج الرأسمالي لتلحق و تتسق مع تطور أدوات الإنتاج .
لا بد من أن تصبح علاقة اجتماعية لينتهي الاستغلال , و يتحقق هذا بإلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج . . . عندئذ يزول التناقض و ندخل مرحلة الاشتراكية .
و هكذا نعرف علمياً أن " الاشتراكية " هي إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج .
و أنه تسبقها مرحلة رأسمالية , لأن ترتيب مراحل التطور و تتابعها ذاته ذو سمة مادية بمعنى أنه لا يتوقف على إرادة الناس .
و لما كانت تلك هي خصائص الاشتراكية ( إلغاء الملكية الخاصة ) فهي لا تتغير تبعاً لأمزجة الناس أو لبيئاتهم أو لأممهم . أدوات الإنتاج هي أدوات الإنتاج في كل مكان . و الملكية هي الملكية في كل مكان . فالاشتراكية هي الاشتراكية في كل مكان .
فلا يقال بعد هذا أن ثمة اشتراكيات متميزة , فلا يقال ـ طبعاً ـ أن ثمة اشتراكية عربية . و إن قيل فهو فضح لافتقار تلك الدعوات لأي أساس علمي .
منطق أهم مميزاته أنه وضع موضع التجربة و مارس الملايين من البشر صنع الاشتراكية على أساسه المتميز : المادية .
غير أن تلك الممارسة ذاتها قد أسقطت المادية .
فبعد قرن من التقدم العلمي ـ منذ ماركس ـ ثبت نهائياً أن " المادة " ليست جدلية , أي أن حركتها تخضع لقوانين ميكانيكية ( كلاسيكية أو كوانطية ) و ليس للتناقض الداخلي . و ذلك " خطأ " لم يكن لماركس ذنب فيه . فإن عدم جدلية المادة حصيلة الإنجازات العلمية في ميدان البحث الذري الذي لم يعاصره ماركس . و في سنة 1962 نشر الاتحاد السوفياتي كتاباً جامعاً تضمنت طبعته الأولى الاعتراف بأن المادة تخضع في حركتها للقوانين الميكانيكية ثم حذف هذا من الطبعات التالية ( أسس الماركسية ـ اللينينية ) . . . و بعيداً عن كل هذا يستطيع أي طالب في مدرسة ثانوية أو في إحدى الكليات العلمية أن يسأل أستاذه : هل المادة جدلية ؟ و ستكون الإجابة في أغلب الأوقات ابتسامة ساخرة من سذاجة السؤال .
و بعد خمسين سنة من محاولة البناء الاشتراكي طبقاً للمنهج المادي , انتهت التجربة إلى نتيجتين : الأولى : أن المجتمعات المرشحة مادياً للاشتراكية لم تنتقل إليها و أن المجتمعات المحرمة عليها الاشتراكية طبقاً للمنهج الماركسي قد اندفعت إليها . مجتمعات في أوروبا و أميركا وصلت ذروة التطور الرأسمالي و بلغت فيها أدوات الإنتاج قدراً خيالياً من التقدم و مع ذلك لم تستطع تلك الأدوات القائدة الرائدة أن تجر الناس هناك إلى الاشتراكية , بينما مجتمعات أخرى في العالم الثالث غير مؤهلة ماركسياً إلا للإقطاع أو الرأسمالية , تولى الناس فيها قيادة تطورها متخطين مراحل كاملة متحدين أدوات إنتاجهم المتخلفة ليقتحموا الطور الاشتراكي . و لما أن حدث هذا لأول مرة في روسيا المتخلفة نظر إليه و فسر على أنه استثناء من النظرية . غير أن الأمر قد اطرد حتى أصبح الاستثناء الروسي قاعدة . و كاد يثبت للاشتراكية سمة جديدة , هي أنها وسيلة المتخلفين إلى التقدم . و استقر الأمر حتى سلم أغلب الاشتراكيين الماركسيين أنفسهم بإمكان التطور الاشتراكي عن غير الطريق الرأسمالي .
النتيجة الثانية : هي أن أصحاب هذا المنهج المادي غير قادرين بواسطته على الوصول إلى فهم موحد لنتيجة الممارسة . و قد أدى هذا ـ و لا يزال يؤدي ـ إلى تمزقهم أجنحة متقاتلة في بعض الأوقات من أول الجامدين نظرياً إلى الذين يقبلون حصيلة الممارسة البحتة و يتراجعون في كل خطوة عمل عن منطلقاتهم الفكرية .
من أين جاء الخطأ , أمن المنهج أم أن النظرية هي الخاطئة ؟
مهما يكن الرأي فقد كان لا بد من أن يعاد النظر في الموضوع كله للبحث عن علة هذه المفارقة : منهج واحد لا يستطيع أن يوحد أصحابه رأياً أو عملاً . و نظرية علمية لا تتفق مع منجزات العلم في القرن العشرين . و قاعدة لتغيير الواقع يأتي الواقع الذي يمارس على أساسها مخالفاً لها .
أما الذين قضوا حياتهم ثواراً مناضلين تحت لواء المادية الماركسية فقد كان صعباً عليهم أن يسقطوا اللواء الذي جمعوا حوله الجماهير , فانطلقوا يؤولون النظرية و يمدون أبعادها لتغطي حصيلة الممارسة الحية , أو يؤولون ظروف الممارسة و يهونون من قيمة الصدع بين النظرية و التطبيق . و نموذج هؤلاء اشتراكيو الاتحاد السوفياتي , مصدر أكبر حركة تراجع عن الماركسية و مراجعة لها . لأنهم أصحاب أغنى خبرة لصنع الاشتراكية على هدي الماركسية . أولئك الذين يقدمون لنا من حين إلى حين تلك المفاهيم الجديدة على الماركسية ( الطريق غير الرأسمالي ـ اشتراكية كل الشعب ـ دولة كل الشعب ـ استمرار الدولة بعد القضاء على الاستغلال ـ دور التراث الروحي الإيجابي في البناء الاشتراكي ـ قيادة الإنسان للتطور . . . الخ ) .
تلك المفاهيم التي تعجبنا , و نقبلها , و تكاد تكون الطريق الجديد للدعوة إلى الاشتراكية السوفياتية , غير أننا نتحدث عن المنهج . يجب ألا ننسى هذا و هذه الحصيلة الغنية , المقبولة , هي حصيلة الممارسة المتراجعة عن المنهج المادي الماركسي ، بمعنى أنها جاءت في الواقع خلافاً لأحكام النظرية الماركسية , و لم تكن ثمرة تطبيقها على ذلك الواقع , و هي هي
التي حملت الكثيرين من أبناء العالم الثالث خاصة على أن يرفضوا المنهج المادي الماركسي , محتجين في هذا بما ( استفادوه ) من التراث الماركسي ذاته , أي من حصيلة خبرة المجتمعات التي سبقتهم إلى بناء الاشتراكية طبقاً للنظرية الماركسية .
ذلك لأن الذين لا يربطهم بالماركسية رباط خاص , الذين يقدرونها كتراث و لكنهم لا يقدسونها , فأولئك أبناء العالم الثالث أصحاب القدر الأكبر من التجربة الحية التي أسقطت الأسس الفكرية للماركسية . السؤال الأول الذي طرحوه هو : إن قيمة أية نظرية علمية أن تجنب الذين يصنعون الحياة على هديها مفاجئات الممارسة , فإذا كانت حصيلة الممارسة قد جاءت على غير ما يتفق مع المنهج الماركسي فما فائدة الماركسية ؟
و إذا كانت المجتمعات التي قضت أجيالاً تحاول صياغة الحياة الاشتراكية طبقاً لذلك المنهج تتراجع عنه و تراجعه , فما الذي يبرر أننا ـ و نحن في أول الطريق ـ نأخذه و نهتدي به ؟
و لما كانوا غير متعصبين للماركسية أو ضدها فقد اتجهت جهودهم إلى المستقبل الاشتراكي على قاعدتين . الأولى على المستوى العملي , و هي قاعدة التجربة و الخطأ . فقد كان إلحاح المشكلات و رغبة الناس في التحرر و البداية المتخلفة , لا تسمح بأن يؤجل البناء الاشتراكي إلى أن يكون له منهج و نظرية . القاعدة الثانية على المستوى النظري و هي البحث عن علة قصور المنهج الماركسي لمحاولة تخطيه . لم يدينوا التجربة الرائدة , و لم يدينوا مراجعة أسسها النظرية , و لم ينكروا طموحهم بل تحدوا واقعهم و حاولوا صنع الحياة فيه من خلال التجربة و الخطأ , و في الوقت ذاته , بحثوا عن الثغرة في المنهج الماركسي فوجدوها : المادية .
و لعل الأمر ـ على المستوى النظري ـ أن يكون قد أخذ شكل الحوار الآتي :
من الذي فشل في الانتقال بالمجتمعات الرأسمالية النامية إلى الاشتراكية ؟ ـ الناس هناك . و من تحدى أدوات الإنتاج و تخطى الرأسمالية و اقتحم المرحلة الاشتراكية ؟ الناس هنا . من الذين يتراجعون عن الماركسية و يراجعونها على ضوء خبرتهم الطويلة في الاتحاد السوفياتي ؟ ـ الناس فيه . من الذي يقود التطور إذن و يحدد غايته و يحقق تلك الغاية ؟ ـ الناس في كل مكان . ما هو العامل ( الأساسي ) في التطور في أي مجتمع ؟
ـ الإنسان .
و أثار العالم الثالث حماساً بالغاً لاحترام الإنسان و الثقة فيه . و أقر له من خلال تجربته الذاتية , و التجربة الإنسانية عامة , بأنه العامل الأساسي القائد لعملية التطور . القائد الثائر الذي يستطيع أن يهزم الاستعمار بكل قواه المادية و هو لا يملك إلا إنسانيته . القائد القادر الذي يستطيع أن يحطم قيود التخلف و يلغي الاستغلال و ينتقل إلى الاشتراكية . و هو لا يملك أدوات إنتاج متطورة . القائد الواثق الذي بلغت ثقته بمقدرته أن يسقط المرحلة الرأسمالية كلها من تاريخه , و يصنع ذلك التاريخ كما يريد لا كما تريد أدوات الإنتاج المادي .
و كما يحدث عادة في غمرة الحماس اتخذ البعض من سقوط النظرية المادية الماركسية حجة لإسقاط النظرية عامة و الاستغناء عنها بالتجربة و الخطأ و ثقة الاشتراكيين بأنفسهم .
إلا أن هذا لا يمنع أن الحماس ـ و لو للإنسان ـ ليس منهجاً علمياً .
و لا بد , إن صح أن الإنسان يستأهل هذه الثقة , من أن يؤدي البحث العلمي إلى تأكيد موضوعي هادئ لها , أي لا بد من أن توجد النظرية التي تنتهي إلى أن الإنسان قائد التطور فعلاً , و أن يكون البحث العلمي الهادئ هو الطريق إلى اكتشافها , و إلا فإن الحماس لن يجدي شيئاً .