الماركسية والقومية ....د. هشام غصيب*
الماركسية والقومية
د. هشام غصيب*
نشرت في صحيفة العرب اللندنية
ينبغي التنبه منذ البداية إلى أن موضوع الندوة في غاية التشعب والتعقيد، الأمر الذي يبرر عزمي على طرح الموضوع على صورة عدد من النقاط المحورية، التي يمكن أن تشكل أرضية صلبة للفهم والبحث والنقاش.
1- ينبغي التنبه إلى أن المسألة القومية تعد من أكثر القضايا التي شغلت بال الماركسيين عبر المائة والخمسين عاما الأخيرة نظريا وعمليا. إذ تناولها ماركس وإنغلز بإسهاب، وبخاصة في سياق ثورات 1848 التي عمت القارة الأوروبية برمتها. وركزا على علاقة القوميات والحركات القومية بالثورة الاجتماعية. ثم عادا وتناولاها في سياق النضالين الإيرلندي والبولندي. ووصل الاهتمام بهذه المسألة أوجها في المناظرات حامية الوطيس التي دارت رحاها في صفوف الماركسيين في أوروبا الوسطى والشرقية في مطلع القرن العشرين. وكان في مقدمة الذين ساهموا في هذه المنظرات: كاوتسكي الألماني وبنكيك الهولندي وكارل رينر وأوتو باور النمساويان وروزا لوكسمبورغ البولندية ولينين الروسي وستالين الجورجي. ولعل أهم هذه المناظرات من جيث العمق الفكري والأثر التاريخي كانت تلك التي دارت بين لينين وروزا لوكسمبرغ في الفترة 1908-1909. وبعد الحرب العالمية الثانية عادت المسألة القومية لتحتل مركز الصدارة في الفكر الماركسي، وذلك بتأثير نهوض حركات التحرر القومي والانتصارات الكبيرة التي حققتها ضد الإمبريالية. وظهرت مدارس جديدة في هذا الصدد عمقت ووسعت ما ذهب إليه لينين في مطلع القرن العشرين، نذكر منها مدرسة التطور اللارأسمالي السوفييتية والمدرسة الماوية ومدرسة التبعية في أمبركا اللاتينية. وبتأثير هذه المدارس، نشأت في الوطن العربي تيارات أضافت جديدا في هذا المضمار، وهي التيارات التي ارتبطت بالأسماء الآتية: منيف الرزاز وياسين الحافظ من أرضية البعث، وسمير أمين ومهدي عامل وإلياس مرقص من أرضية اليسار الشيوعي. وفي الثلث الأخير من القرن العشرين تم إحياء موقف روزا لوكسمبرغ مجردا من بعده الثوري على يد بعض الماركسيين الإنغليز من مثل: بل وارن وإريك هوبزبوم وتوم نيرن. وأعتقد أن هذا التيار أفلح في ترك أثر سلبي على دور اليسار في الحركات القومية، الأمر الذي أتاح الفرصة للتيارات الأصولية مسدودة الآفاق في التسلل إلى هذه الحركات، بل والتغلغل فيها.
2- ما هي الأبعاد التي تركز عليها النظرية الماركسية في تناولها المسألة القومية؟ إن النظرية المركسية نظرية تاريخانية. من ثم، فإنها لا تعترف بالمطلقات والجواهر الثابتة، وإنما تعتبر كل شيء متغيرا وفي صيرورة. وهذا ينطبق على الأمة والقومية أيضا. لذلك فهي معنية بالإجابة عن أسئلة كالآتية: كيف تنشأ الكيانات الاجتماعية التاريخية التي نسميها الأمم؟ وهل تنشأ جميعا بالكيفية ذاتها وتحت الظروف ذاتها؟ وكيف تتطور وتهيمن على بعضها وتتراجع وربما تتفكك وتندثر؟ وكيف تحيي الأمم ذاتها وكيف تحدث وتوحد نفسها؟ وما طبيعة الصراعات القومية وحركات التحرر القومي؟ وما علاقتها بالصراعات الطبقية والطبقات الاجتماعية؟ وما علاقة المسألة القومية بالأممية العمالية؟ وهل يمكن القول إن صراع حركات التحرر القومي ضد الإمبريالية هو شكل من أشكال الصراع الطبقي؟ وما معنى الاضطهاد القومي، وما هي آلياته ومراميه؟ هذه هي الأسئلة الجوهرية التي عني ويعنى بها الماركسيون بحكم طبيعة نظريتهم وطبيعة انخراطهم في الواقع التاريخي الاجتماعي.
3- شكل لينين انعطافة جذرية في التصور الماركسي للأمة والمسألة القومية.إذ أدرك أولا أن الاستغلال الرأسمالي لا يقتصر على الشكل الكلاسيكي الذي فصل ماركس معالمه في كتابه الرأسمال، أي الشفط المباشر للقيمة وفائضها من الطبقة العاملة الصناعية، وإنما يشمل أشكالا أخرى، وفي مقدمتها القهر والاستغلال القوميان. فالدولة الرأسمالية المركزية تسعى إلى الهيمنة على الأمم الضعيفة من أجل التحكم بالسوق العالمية، المسرح الحقيقي لنشاطها، والصمود أمام الأمم المنافسة، وتحقيق الربح المفرط عبر النهب والاستغلال المفرط بقوة السلاح والقهر العسكري. وتؤدي هذه الهيمنة البشعة إلى بروز حركات تحرر قومي تسعى إلى تقويض نظام القهر والحد من النهب والاستغلال وإعادة بناء المجتمع القومي على أسس تضمن الحفاظ على ثروات الأمة وتسخيرها لما فيه فائدتها. وعليه، فقد أدرك لينين أن الصراع القومي التحرري هو في جوهره صراع طبقي يخوضه تحالف طبقي قومي ضد الطبقة الرأسمالية الإمبريالية المهيمنة، وأدرك، من ثم، أن الصراع القومي التحرري مكمل للصراع العمالي الكلاسيكي، وأن هذه الحركات هي الحليف الرئيسي لعمال المراكز الرأسمالية. بذلك وجد لينين العلاقة الجدلية بين حركات التحرر القومي وبين الأممية العمالية، في الوقت الذي ظنت فيه المناضلة اليسارية، روزا لوكسمبرغ، أن هذه الحركات نقيض للأممية العمالية، وأن الطبقة العاملة غير معنية بالتحرر القومي، الأمر الذي جعلها ترفع شعار حق تقرير المصير للطبقة العاملة بديلا عن شعار حق تفرير المصير للأمم الذي رفعه لينين. وقد رفع لينين هذا الشعار العظيم، أولا لأنه اعتبر الاستقلال القومي وتشكيل الدولة القومية مهمة أساسية من مهمات الثورة القومية الديموقراطية، التي تمهد السبيل أمام الثورة الاشتراكية بتوفير شروطها القومية الديموقراطية، وثانيا، لأن تنفيذ هذا الحق، وبخاصة حق الأمم المهيمن عليها في الانفصال عن الدولة المهيمنة، يساهم في تقويض أركان ما أسماه لينين شوفينية الدولة العظمى، التي تستمر حتى بعد استلام الطبقة العاملة السلطة في الدولة المهيمنة. إن هذا الربط الجدلي العميق بين الثورة الديموقراطية والثورة الاشتراكية والمسألة القومية لا نجد مثيلا له في أي منظر ماركسي آخر، ولا حتى في ماركس نفسه.
4- لئن هيمن التصور اللينيني على الأوساط اليسارية في الربع الثالث من القرن العشرين، فإنه انحسر بصورة ملحوظة في الربع الأخير منه. وتم إحياء الكثير من الأفكارالمناقضة للينينية والتي سادت الخمس الأول من القرن العشرين، أفكار روزا لوكسمبورغ والماركسيين النمساويين، مجردة من بعدها الثوري الأممي. وعليه، فإن المناظرات الماركسية في هذا الشأن تركزت مؤخرا حول المسائل الآتية: (1) ما إذا كان الصراع القومي شكلا من أشكال الصراع الطبقي، أم ما إذا كان مستقلا عن الطبقات وتعبيرا عن خصوصية ميتافيزيقية؛ (2) ما إذا كان برجوازيا في جوهره، أي تعبيرا عن البرجوازية في مراحل صعودها، أم ما إذا كان طبقيا في جوهره، لكن ليس بالضرورة برجوازيا. ويحضرني في هذا المقام مهدي عامل الذي يؤكد أن الصراع القومي اليوم هو بروليتاري في جوهره، بمعنى يكون مسخا لا يحقق أهدافه بغير ذلك؛ (3) ما إذا كان الصراع القومي مجرد آيديولوجيا أوروبية، مجرد فكرة ابتكرت في أوروبا وتعبر عن الخصوصية الحضارية الأوروبية، ثم تسربت مع التوسع الأوروبي إلى الحضارات الأخرى وتجسدت في حركات سياسية؛ (4) ما إذا الحركات القومية هي في جوهرها حركات رجعية من طينة الحركات الفاشية، أم ما إذا كان بعضها تقدميا وبعضها الآخر رجعيا اعتمادا على طبيعة الطبقات الاجتماعية التي تقودها ومواقعها الطبقية؛ (5) ما إذا كان الزمن قد تخطى الصراع القومي، أي ما إذا كانت الدولة القومية ديناصورا تخطاه زمن العولمة تحديدا؛ (6) ما هو وضع المهاجرين وما يسمى الأقليات القومية وربما الدينية، وما علاقتهم بأوطانهم الأصلية وصراعاتها القومية؟ ولا شك أن هناك العديد من الرؤى في الأوساط الماركسية حول هذه القضايا، لكن الوقت لا يسمح لي بتناولها الآن، وقد نتطرق إليها في النقاش.
5- لا شك أن المسألة القومية تصل أوجها في الوطن العربي الحديث. ولا أظن أن هناك قضية أثارت من الخلافات في صفوف الماركسيين العرب ما أثارته هذه القضية. بل بلغ الأمر لدى العديد من الشيوعيين أن شككوا في وجود أمة عربية في ضوء التعريف الستاليني الضيق والدغمائي للأمة. ويمكن النظر إلى الأمة العربية على أنها أمة تشكلت عبر دهور طويلة بطريقة تختلف عن الطرق التي تشكلت بها الأمم الأوروبية الحديثة، وأن هذه الأمة تعرضت إلى نوع من الذوبان والتجزئة قبل ان تنضج، وجاء الاستعمار الغربي لكي يكرس التجزئة ويؤطرها من أجل التحكم في الأمة وثرواتها. لذلك، فإن المطلوب منا هو توحيد ما فتته الاستعمار، أي خلق حركة تحرر قومي تسعى إلى توحيد الجماهير العربية المقهورة تحت مظلة دولة قومية حديثة وتغيير علاقات الملكية في الوطن العربي بما يحرر الموارد والإنسان من عبودية الإمبريالية لمصلحة الأمة. ووفق هذا التصور، فإن الحركة القومية العربية ينبغي أن تكون حركة اشتراكية وحدوية حتى تحقق الأهداف المذكورة. والأمر متروك للنقاش. بل إن كل ما طرحناه في هذه المداخلة قابل للجدال والتوسيع والتفصيل، حيث إنه مجرد مدخل ضيق إلى محيط زاخر بالأفكار والإشكالات.
الماركسية والقومية
د. هشام غصيب*
نشرت في صحيفة العرب اللندنية
ينبغي التنبه منذ البداية إلى أن موضوع الندوة في غاية التشعب والتعقيد، الأمر الذي يبرر عزمي على طرح الموضوع على صورة عدد من النقاط المحورية، التي يمكن أن تشكل أرضية صلبة للفهم والبحث والنقاش.
1- ينبغي التنبه إلى أن المسألة القومية تعد من أكثر القضايا التي شغلت بال الماركسيين عبر المائة والخمسين عاما الأخيرة نظريا وعمليا. إذ تناولها ماركس وإنغلز بإسهاب، وبخاصة في سياق ثورات 1848 التي عمت القارة الأوروبية برمتها. وركزا على علاقة القوميات والحركات القومية بالثورة الاجتماعية. ثم عادا وتناولاها في سياق النضالين الإيرلندي والبولندي. ووصل الاهتمام بهذه المسألة أوجها في المناظرات حامية الوطيس التي دارت رحاها في صفوف الماركسيين في أوروبا الوسطى والشرقية في مطلع القرن العشرين. وكان في مقدمة الذين ساهموا في هذه المنظرات: كاوتسكي الألماني وبنكيك الهولندي وكارل رينر وأوتو باور النمساويان وروزا لوكسمبورغ البولندية ولينين الروسي وستالين الجورجي. ولعل أهم هذه المناظرات من جيث العمق الفكري والأثر التاريخي كانت تلك التي دارت بين لينين وروزا لوكسمبرغ في الفترة 1908-1909. وبعد الحرب العالمية الثانية عادت المسألة القومية لتحتل مركز الصدارة في الفكر الماركسي، وذلك بتأثير نهوض حركات التحرر القومي والانتصارات الكبيرة التي حققتها ضد الإمبريالية. وظهرت مدارس جديدة في هذا الصدد عمقت ووسعت ما ذهب إليه لينين في مطلع القرن العشرين، نذكر منها مدرسة التطور اللارأسمالي السوفييتية والمدرسة الماوية ومدرسة التبعية في أمبركا اللاتينية. وبتأثير هذه المدارس، نشأت في الوطن العربي تيارات أضافت جديدا في هذا المضمار، وهي التيارات التي ارتبطت بالأسماء الآتية: منيف الرزاز وياسين الحافظ من أرضية البعث، وسمير أمين ومهدي عامل وإلياس مرقص من أرضية اليسار الشيوعي. وفي الثلث الأخير من القرن العشرين تم إحياء موقف روزا لوكسمبرغ مجردا من بعده الثوري على يد بعض الماركسيين الإنغليز من مثل: بل وارن وإريك هوبزبوم وتوم نيرن. وأعتقد أن هذا التيار أفلح في ترك أثر سلبي على دور اليسار في الحركات القومية، الأمر الذي أتاح الفرصة للتيارات الأصولية مسدودة الآفاق في التسلل إلى هذه الحركات، بل والتغلغل فيها.
2- ما هي الأبعاد التي تركز عليها النظرية الماركسية في تناولها المسألة القومية؟ إن النظرية المركسية نظرية تاريخانية. من ثم، فإنها لا تعترف بالمطلقات والجواهر الثابتة، وإنما تعتبر كل شيء متغيرا وفي صيرورة. وهذا ينطبق على الأمة والقومية أيضا. لذلك فهي معنية بالإجابة عن أسئلة كالآتية: كيف تنشأ الكيانات الاجتماعية التاريخية التي نسميها الأمم؟ وهل تنشأ جميعا بالكيفية ذاتها وتحت الظروف ذاتها؟ وكيف تتطور وتهيمن على بعضها وتتراجع وربما تتفكك وتندثر؟ وكيف تحيي الأمم ذاتها وكيف تحدث وتوحد نفسها؟ وما طبيعة الصراعات القومية وحركات التحرر القومي؟ وما علاقتها بالصراعات الطبقية والطبقات الاجتماعية؟ وما علاقة المسألة القومية بالأممية العمالية؟ وهل يمكن القول إن صراع حركات التحرر القومي ضد الإمبريالية هو شكل من أشكال الصراع الطبقي؟ وما معنى الاضطهاد القومي، وما هي آلياته ومراميه؟ هذه هي الأسئلة الجوهرية التي عني ويعنى بها الماركسيون بحكم طبيعة نظريتهم وطبيعة انخراطهم في الواقع التاريخي الاجتماعي.
3- شكل لينين انعطافة جذرية في التصور الماركسي للأمة والمسألة القومية.إذ أدرك أولا أن الاستغلال الرأسمالي لا يقتصر على الشكل الكلاسيكي الذي فصل ماركس معالمه في كتابه الرأسمال، أي الشفط المباشر للقيمة وفائضها من الطبقة العاملة الصناعية، وإنما يشمل أشكالا أخرى، وفي مقدمتها القهر والاستغلال القوميان. فالدولة الرأسمالية المركزية تسعى إلى الهيمنة على الأمم الضعيفة من أجل التحكم بالسوق العالمية، المسرح الحقيقي لنشاطها، والصمود أمام الأمم المنافسة، وتحقيق الربح المفرط عبر النهب والاستغلال المفرط بقوة السلاح والقهر العسكري. وتؤدي هذه الهيمنة البشعة إلى بروز حركات تحرر قومي تسعى إلى تقويض نظام القهر والحد من النهب والاستغلال وإعادة بناء المجتمع القومي على أسس تضمن الحفاظ على ثروات الأمة وتسخيرها لما فيه فائدتها. وعليه، فقد أدرك لينين أن الصراع القومي التحرري هو في جوهره صراع طبقي يخوضه تحالف طبقي قومي ضد الطبقة الرأسمالية الإمبريالية المهيمنة، وأدرك، من ثم، أن الصراع القومي التحرري مكمل للصراع العمالي الكلاسيكي، وأن هذه الحركات هي الحليف الرئيسي لعمال المراكز الرأسمالية. بذلك وجد لينين العلاقة الجدلية بين حركات التحرر القومي وبين الأممية العمالية، في الوقت الذي ظنت فيه المناضلة اليسارية، روزا لوكسمبرغ، أن هذه الحركات نقيض للأممية العمالية، وأن الطبقة العاملة غير معنية بالتحرر القومي، الأمر الذي جعلها ترفع شعار حق تقرير المصير للطبقة العاملة بديلا عن شعار حق تفرير المصير للأمم الذي رفعه لينين. وقد رفع لينين هذا الشعار العظيم، أولا لأنه اعتبر الاستقلال القومي وتشكيل الدولة القومية مهمة أساسية من مهمات الثورة القومية الديموقراطية، التي تمهد السبيل أمام الثورة الاشتراكية بتوفير شروطها القومية الديموقراطية، وثانيا، لأن تنفيذ هذا الحق، وبخاصة حق الأمم المهيمن عليها في الانفصال عن الدولة المهيمنة، يساهم في تقويض أركان ما أسماه لينين شوفينية الدولة العظمى، التي تستمر حتى بعد استلام الطبقة العاملة السلطة في الدولة المهيمنة. إن هذا الربط الجدلي العميق بين الثورة الديموقراطية والثورة الاشتراكية والمسألة القومية لا نجد مثيلا له في أي منظر ماركسي آخر، ولا حتى في ماركس نفسه.
4- لئن هيمن التصور اللينيني على الأوساط اليسارية في الربع الثالث من القرن العشرين، فإنه انحسر بصورة ملحوظة في الربع الأخير منه. وتم إحياء الكثير من الأفكارالمناقضة للينينية والتي سادت الخمس الأول من القرن العشرين، أفكار روزا لوكسمبورغ والماركسيين النمساويين، مجردة من بعدها الثوري الأممي. وعليه، فإن المناظرات الماركسية في هذا الشأن تركزت مؤخرا حول المسائل الآتية: (1) ما إذا كان الصراع القومي شكلا من أشكال الصراع الطبقي، أم ما إذا كان مستقلا عن الطبقات وتعبيرا عن خصوصية ميتافيزيقية؛ (2) ما إذا كان برجوازيا في جوهره، أي تعبيرا عن البرجوازية في مراحل صعودها، أم ما إذا كان طبقيا في جوهره، لكن ليس بالضرورة برجوازيا. ويحضرني في هذا المقام مهدي عامل الذي يؤكد أن الصراع القومي اليوم هو بروليتاري في جوهره، بمعنى يكون مسخا لا يحقق أهدافه بغير ذلك؛ (3) ما إذا كان الصراع القومي مجرد آيديولوجيا أوروبية، مجرد فكرة ابتكرت في أوروبا وتعبر عن الخصوصية الحضارية الأوروبية، ثم تسربت مع التوسع الأوروبي إلى الحضارات الأخرى وتجسدت في حركات سياسية؛ (4) ما إذا الحركات القومية هي في جوهرها حركات رجعية من طينة الحركات الفاشية، أم ما إذا كان بعضها تقدميا وبعضها الآخر رجعيا اعتمادا على طبيعة الطبقات الاجتماعية التي تقودها ومواقعها الطبقية؛ (5) ما إذا كان الزمن قد تخطى الصراع القومي، أي ما إذا كانت الدولة القومية ديناصورا تخطاه زمن العولمة تحديدا؛ (6) ما هو وضع المهاجرين وما يسمى الأقليات القومية وربما الدينية، وما علاقتهم بأوطانهم الأصلية وصراعاتها القومية؟ ولا شك أن هناك العديد من الرؤى في الأوساط الماركسية حول هذه القضايا، لكن الوقت لا يسمح لي بتناولها الآن، وقد نتطرق إليها في النقاش.
5- لا شك أن المسألة القومية تصل أوجها في الوطن العربي الحديث. ولا أظن أن هناك قضية أثارت من الخلافات في صفوف الماركسيين العرب ما أثارته هذه القضية. بل بلغ الأمر لدى العديد من الشيوعيين أن شككوا في وجود أمة عربية في ضوء التعريف الستاليني الضيق والدغمائي للأمة. ويمكن النظر إلى الأمة العربية على أنها أمة تشكلت عبر دهور طويلة بطريقة تختلف عن الطرق التي تشكلت بها الأمم الأوروبية الحديثة، وأن هذه الأمة تعرضت إلى نوع من الذوبان والتجزئة قبل ان تنضج، وجاء الاستعمار الغربي لكي يكرس التجزئة ويؤطرها من أجل التحكم في الأمة وثرواتها. لذلك، فإن المطلوب منا هو توحيد ما فتته الاستعمار، أي خلق حركة تحرر قومي تسعى إلى توحيد الجماهير العربية المقهورة تحت مظلة دولة قومية حديثة وتغيير علاقات الملكية في الوطن العربي بما يحرر الموارد والإنسان من عبودية الإمبريالية لمصلحة الأمة. ووفق هذا التصور، فإن الحركة القومية العربية ينبغي أن تكون حركة اشتراكية وحدوية حتى تحقق الأهداف المذكورة. والأمر متروك للنقاش. بل إن كل ما طرحناه في هذه المداخلة قابل للجدال والتوسيع والتفصيل، حيث إنه مجرد مدخل ضيق إلى محيط زاخر بالأفكار والإشكالات.