جلة الأي الاخر - لعدد 39 - كانون الاول - ديسمبر 2009 -علوم
التكنولوجيا قادرة على إحداث تغييرات عميقة في المجتمع العربي
هل بدأ عصر الإنترنت والمعلوماتية يدخل منازل شعوب الشرق الأوسط الإسلامي أخيراً، بعد أن أمضى العقود الثلاثة الماضية وهو يكتفي بطرق أبوابها؟
الأرجح أن الأمر كذلك.
فمن إيران إلى المغرب، ومن مصر إلى الخليج، يبدو أن الثورة المعلوماتية بدأت تتبرعم في شكل حركات سياسية. لكنها حركات من نوع خاص للغاية وتختلف اختلافاً جذرياً عن حركات نصف القرن المنصرم.
فهي، أولاً، تسبح في فضاء «سوبراني» (الكتروني) تتم الاتصالات عبره برمشة عين، فيما الأحزاب التقليدية لاتزال حبيسة قيود المكان والزمان.
وهي، ثانياً، بلا «زعيم قائد» أو رأس مُدبِّر. فالقيادة هي نفسها القاعدة، وبالتالي القرارات تتخذ بالاجماع أو شبه الاجماع، في إطار ديمقراطية جديدة يمكن أن نُطلق عليها إسم «الديمقراطية السُوبرانية».
وهي، ثالثاً، تتشكّل في معظمها، أن لم يكن بكاملها، من الجيل الجديد الذي يتمتع (على عكس جيل آبائه) بمرونة فائقة في استيعاب تقنيات ثورة المعلوماتية ووضعها موضع التطبيق.
وأخيراً، الحركات السياسية الجديدة لاتكتفي بطرح قضايا سياسية عامة، بل تركّز أيضاً على مسائل قطاعية أو مرحلية أو مطلبية.
هذه الحركات الاجتماعية- السُوبرانية، تُشبه إلى حد ما الحركات السياسية - الاجتماعية في أميركا اللاتينية، التي قلبت قبل عقد من الآن المناخ الثقافي في تلك المنطقة، ثم مالبثت أن قلبت معه المناخ السياسي لتدفع الأحزاب اليسارية الديموقراطية إلى السلطة في معظم تلك القارة.
وقد شهد العالم عينّة مباشرة عن هذه الحركات في التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة التي انطلقت قبل أيام في طهران وباقي المدن الإيرانية، والتي تبيّن أنها «نظّمت نفسها بنفسها» عبر الفضاء السوبراني، بعد أن فرضت السلطات قيوداً كاسحة على الإعلام التقليدي.
وفي المنطقة العربية، وعلى مدى العقدين المنصرمين، ظهرت الحركات الاحتجاجية بوصفها قوى مُعارضة جديدة في المنطقة. وقد وَعَدَتْ هذه الحركات منذ العام 2002، في كل من المغرب والجزائر وتونس ومصر والأردن والبحرين والكويت، ببث الروح مجدداً في الحياة السياسية التي أوشكت على الأفول بسبب قمع الأنظمة للمعارضة.
أو هذا على الأقل ما يراه مؤتمر لأحزاب المعارضة العربية عُقد في بيروت قبل أيام، حيث كان ثمة إجماع على أن الحركات الاحتجاجية الجديدة تعكف حالياً على إحياء الحياة السياسة العربية، من خلال التركيز على مطالب قطاعية على غرار حقوق المرأة والأقليات العرقية، وتمكين القوى الفكرية والسياسية والاجتماعية الفاعلة التي كانت مُهمّشة، وأيضاً على قضايا الإصلاح السياسي من قَبيل تداول السلطة والانتخابات الحرة والشفافة والضوابط والتوازنات.
وأشار المؤتمرون أيضاً إلى أن هذه الحركات نجحت أيضاً في تعبئة المواطنين الذين أُصيبوا بخيبة أمل من السياسة، لأنها تملك أسساً تنظيمية وإيديولوجية مَرِنة. كما أنها وعلى عكس الأحزاب السياسية الليبرالية والقومية واليسارية والإسلامية، لا تملك هياكل هرمية جامدة بل تعتمد على التواصل الشبكي والتنسيق ومبدأ العضوية المفتوحة. وفي الواقع، تشمل عضوية حركات الاحتجاج نشطاء من كل ألوان الطيف السياسي، كما الحال مع الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية)، وهيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات في تونس.
لكن، هل سيكون في مقدور هذه الحركات الانتقال من مجرد التأثير على مجريات الأحداث في بلدانها، إلى ممارسة فعل التغيير فيها؟
صحيح أن حركات المعارضة الاجتماعية – السُوبرانية العربية ، لا تزال جنينية وبالتالي قابلة للإنتكاس.
هذا ماحدث، على سبيل المثال، مع حركة «كفاية» في مصر التي اعتقد الكثيرون بأنها شبّت عن الطوق وسرعان ما ستتحوّل إلى حركة جماهيرية تغييرية. وبالفعل، البداية القوية التي انطلقت بها الحركة حملت مثل هذه القسمات، لكن سرعان ما ثبت العكس حين أصابها الوهن بعد أن فشلت في وقف التمديد للرئيس مبارك، ثم بعد أن نجحت الأجهزة الأمنية في اختراقها وتفريق صفوفها.
الأمر نفسه تكرر في لبنان، حيث شهدت حركات المجتمع المدني (من مقاومة التطبيع إلى مكافحة الطائفية) صعوداً ملموساً في بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قبل أن تختفي في خواتيمه.
وفي الكويت، وبعد نجاح الحركات الشبابية في فرض تقليص الدوائر الانتخابية إلى خمس، ساد الاعتقاد بأن هذه الحركات ستقود الحياة السياسية نحو تطويرات ديمقراطية جديدة. لكن هذا لم يحدث، بل تبعثرت المجموعات الطلابية بالسرعة نفسها التي تجمّعت بها.
بيد أن الارتكاس لايعني الزوال. فهذه الحركات وُجدت لتبقى ما بقيت ثورة المعلوماتية. كل ما في الامر أنها في حاجة إلى مرحلة من الاختمار والتبلور والتفاعل، مرفقة مع تجارب ناجحة قادرة على تحويلها في نظر الجمهور الشعبي العريض من مجرد ظواهر نخبوية عابرة، كما هي معظمها الآن، إلى موجة عملاقة قادرة على التغيير كما التأثير.
هذه نقطة.
وثمة نقطة أخرى لاتقل أهمية: الحركات الاجتماعية- السوبرانية ستكون قادرة على تحقيق انجازات محلية، بالتحديد لأنها تيارات محلية. هذا في حين أن الحركات القومية العربية الجديدة والإسلامية التي تنبت كالفطر الآن في الفضاء السوبراني، لا تزال تعاني من أمرين إثنين:
الأول، أنها لاتزال تستخدم الشاي القديم (الإديولوجية القومية القديمة) في أباريق جديدة (الانترنت). وهذا ما يجعلها عاجزة عن استقطاب قطاعات واسعة من الجيل الجديد. والثاني، أنها لم تتمكّن حتى الآن من القيام بأي تحرّك عملي على الأرض، على غرار ما فعلت وتفعل حركات الاحتجاج «الخضراء» في إيران.
هذا التعثر يشمل حتى حركات الإسلام السياسي التي، وعلى رغم كونها هذه الأيام قوى المُعارضة الرئيسة في المنطقة العربية، لم تستطع بعد التأقلم مع «العرب الجدد». لا بل هي تحاول على العكس من ذلك كبح جماح وتقييد شبابها «السوبرانيين» الذين ينشطون على الإنترنت.
جل. حركات الاحتجاج الشبابية لا يزال أمامها شوط بعيد قبل أن تنتقل من التأثير على الحياة السياسية إلى البدء في تغييرها. لكن الولادة تمّت، وبدأت الآن، كما ألمعنا، مرحلة النمو والنضج والاختمار. وهي مرحلة في حاجة إلى «طول بال» من جهة، وإلى تدقيق في طببيعة موازين القوى المقبلة بين الأنظمة وبين هذه الحركات، من جهة أخرى.
ثم (وهنا الأهم)، ثمة ضرورة قصوى لدراسة واستقصاء وقياس مدى تأثير هذه الحركات على الحياة السياسية العربية عامة، وعلى الأحزاب والمنظمات الكلاسيكية على وجه الخصوص.
فإذا ما تبيّن أن الأنظمة كما الأحزاب الرسمية والمعارضة على حد سواء، بدأت تحسب حساباً لهذه الحركات وتضعها في إطار لعبة موازين القوى، فسيكون في وسعنا القول حينذاك أن «السوبرانيين « العرب انتقلوا بالفعل من التأثير إلى التغيير.
لكن كيف؟
التكنولوجيا قادرة على إحداث تغييرات عميقة في المجتمع العربي
هل بدأ عصر الإنترنت والمعلوماتية يدخل منازل شعوب الشرق الأوسط الإسلامي أخيراً، بعد أن أمضى العقود الثلاثة الماضية وهو يكتفي بطرق أبوابها؟
الأرجح أن الأمر كذلك.
فمن إيران إلى المغرب، ومن مصر إلى الخليج، يبدو أن الثورة المعلوماتية بدأت تتبرعم في شكل حركات سياسية. لكنها حركات من نوع خاص للغاية وتختلف اختلافاً جذرياً عن حركات نصف القرن المنصرم.
فهي، أولاً، تسبح في فضاء «سوبراني» (الكتروني) تتم الاتصالات عبره برمشة عين، فيما الأحزاب التقليدية لاتزال حبيسة قيود المكان والزمان.
وهي، ثانياً، بلا «زعيم قائد» أو رأس مُدبِّر. فالقيادة هي نفسها القاعدة، وبالتالي القرارات تتخذ بالاجماع أو شبه الاجماع، في إطار ديمقراطية جديدة يمكن أن نُطلق عليها إسم «الديمقراطية السُوبرانية».
وهي، ثالثاً، تتشكّل في معظمها، أن لم يكن بكاملها، من الجيل الجديد الذي يتمتع (على عكس جيل آبائه) بمرونة فائقة في استيعاب تقنيات ثورة المعلوماتية ووضعها موضع التطبيق.
وأخيراً، الحركات السياسية الجديدة لاتكتفي بطرح قضايا سياسية عامة، بل تركّز أيضاً على مسائل قطاعية أو مرحلية أو مطلبية.
هذه الحركات الاجتماعية- السُوبرانية، تُشبه إلى حد ما الحركات السياسية - الاجتماعية في أميركا اللاتينية، التي قلبت قبل عقد من الآن المناخ الثقافي في تلك المنطقة، ثم مالبثت أن قلبت معه المناخ السياسي لتدفع الأحزاب اليسارية الديموقراطية إلى السلطة في معظم تلك القارة.
وقد شهد العالم عينّة مباشرة عن هذه الحركات في التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة التي انطلقت قبل أيام في طهران وباقي المدن الإيرانية، والتي تبيّن أنها «نظّمت نفسها بنفسها» عبر الفضاء السوبراني، بعد أن فرضت السلطات قيوداً كاسحة على الإعلام التقليدي.
وفي المنطقة العربية، وعلى مدى العقدين المنصرمين، ظهرت الحركات الاحتجاجية بوصفها قوى مُعارضة جديدة في المنطقة. وقد وَعَدَتْ هذه الحركات منذ العام 2002، في كل من المغرب والجزائر وتونس ومصر والأردن والبحرين والكويت، ببث الروح مجدداً في الحياة السياسية التي أوشكت على الأفول بسبب قمع الأنظمة للمعارضة.
أو هذا على الأقل ما يراه مؤتمر لأحزاب المعارضة العربية عُقد في بيروت قبل أيام، حيث كان ثمة إجماع على أن الحركات الاحتجاجية الجديدة تعكف حالياً على إحياء الحياة السياسة العربية، من خلال التركيز على مطالب قطاعية على غرار حقوق المرأة والأقليات العرقية، وتمكين القوى الفكرية والسياسية والاجتماعية الفاعلة التي كانت مُهمّشة، وأيضاً على قضايا الإصلاح السياسي من قَبيل تداول السلطة والانتخابات الحرة والشفافة والضوابط والتوازنات.
وأشار المؤتمرون أيضاً إلى أن هذه الحركات نجحت أيضاً في تعبئة المواطنين الذين أُصيبوا بخيبة أمل من السياسة، لأنها تملك أسساً تنظيمية وإيديولوجية مَرِنة. كما أنها وعلى عكس الأحزاب السياسية الليبرالية والقومية واليسارية والإسلامية، لا تملك هياكل هرمية جامدة بل تعتمد على التواصل الشبكي والتنسيق ومبدأ العضوية المفتوحة. وفي الواقع، تشمل عضوية حركات الاحتجاج نشطاء من كل ألوان الطيف السياسي، كما الحال مع الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية)، وهيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات في تونس.
لكن، هل سيكون في مقدور هذه الحركات الانتقال من مجرد التأثير على مجريات الأحداث في بلدانها، إلى ممارسة فعل التغيير فيها؟
صحيح أن حركات المعارضة الاجتماعية – السُوبرانية العربية ، لا تزال جنينية وبالتالي قابلة للإنتكاس.
هذا ماحدث، على سبيل المثال، مع حركة «كفاية» في مصر التي اعتقد الكثيرون بأنها شبّت عن الطوق وسرعان ما ستتحوّل إلى حركة جماهيرية تغييرية. وبالفعل، البداية القوية التي انطلقت بها الحركة حملت مثل هذه القسمات، لكن سرعان ما ثبت العكس حين أصابها الوهن بعد أن فشلت في وقف التمديد للرئيس مبارك، ثم بعد أن نجحت الأجهزة الأمنية في اختراقها وتفريق صفوفها.
الأمر نفسه تكرر في لبنان، حيث شهدت حركات المجتمع المدني (من مقاومة التطبيع إلى مكافحة الطائفية) صعوداً ملموساً في بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قبل أن تختفي في خواتيمه.
وفي الكويت، وبعد نجاح الحركات الشبابية في فرض تقليص الدوائر الانتخابية إلى خمس، ساد الاعتقاد بأن هذه الحركات ستقود الحياة السياسية نحو تطويرات ديمقراطية جديدة. لكن هذا لم يحدث، بل تبعثرت المجموعات الطلابية بالسرعة نفسها التي تجمّعت بها.
بيد أن الارتكاس لايعني الزوال. فهذه الحركات وُجدت لتبقى ما بقيت ثورة المعلوماتية. كل ما في الامر أنها في حاجة إلى مرحلة من الاختمار والتبلور والتفاعل، مرفقة مع تجارب ناجحة قادرة على تحويلها في نظر الجمهور الشعبي العريض من مجرد ظواهر نخبوية عابرة، كما هي معظمها الآن، إلى موجة عملاقة قادرة على التغيير كما التأثير.
هذه نقطة.
وثمة نقطة أخرى لاتقل أهمية: الحركات الاجتماعية- السوبرانية ستكون قادرة على تحقيق انجازات محلية، بالتحديد لأنها تيارات محلية. هذا في حين أن الحركات القومية العربية الجديدة والإسلامية التي تنبت كالفطر الآن في الفضاء السوبراني، لا تزال تعاني من أمرين إثنين:
الأول، أنها لاتزال تستخدم الشاي القديم (الإديولوجية القومية القديمة) في أباريق جديدة (الانترنت). وهذا ما يجعلها عاجزة عن استقطاب قطاعات واسعة من الجيل الجديد. والثاني، أنها لم تتمكّن حتى الآن من القيام بأي تحرّك عملي على الأرض، على غرار ما فعلت وتفعل حركات الاحتجاج «الخضراء» في إيران.
هذا التعثر يشمل حتى حركات الإسلام السياسي التي، وعلى رغم كونها هذه الأيام قوى المُعارضة الرئيسة في المنطقة العربية، لم تستطع بعد التأقلم مع «العرب الجدد». لا بل هي تحاول على العكس من ذلك كبح جماح وتقييد شبابها «السوبرانيين» الذين ينشطون على الإنترنت.
جل. حركات الاحتجاج الشبابية لا يزال أمامها شوط بعيد قبل أن تنتقل من التأثير على الحياة السياسية إلى البدء في تغييرها. لكن الولادة تمّت، وبدأت الآن، كما ألمعنا، مرحلة النمو والنضج والاختمار. وهي مرحلة في حاجة إلى «طول بال» من جهة، وإلى تدقيق في طببيعة موازين القوى المقبلة بين الأنظمة وبين هذه الحركات، من جهة أخرى.
ثم (وهنا الأهم)، ثمة ضرورة قصوى لدراسة واستقصاء وقياس مدى تأثير هذه الحركات على الحياة السياسية العربية عامة، وعلى الأحزاب والمنظمات الكلاسيكية على وجه الخصوص.
فإذا ما تبيّن أن الأنظمة كما الأحزاب الرسمية والمعارضة على حد سواء، بدأت تحسب حساباً لهذه الحركات وتضعها في إطار لعبة موازين القوى، فسيكون في وسعنا القول حينذاك أن «السوبرانيين « العرب انتقلوا بالفعل من التأثير إلى التغيير.
لكن كيف؟