النبك
ودير مار موسى الحبشي
بقلم غبطة السيد أغناطيوس أفرام السريانيودير مار موسى الحبشي
بطريرك السريان الانطاكي
النبك وفي السريانية نفك نفك بالفا المغلّظة جميلة في جبل قلمون شمالي دمشق الشام بعيدة عنها 77 كيلو متر. طيبة الهواء عذبة المياه يسقي أراضيها الخصبة وحدائقها النضرة نه جارٍ ذو مياه نميرة. وهي مبنية فوق تل يشرف على وادٍ فسيح تكثر فيه الزروع والأشجار. ويعلو البلدة دير مار موسى الحبشي وهو يطل عليها من جميع الأنحاء وإلى جانب الدير كنيسة قديمة لطائفتنا ودار للمطرنة ومدرسة للأحداث.
أما جبل قلمون فيمتد من قرية الدريج البعيدة عن دمشق 22كيلو متر شمالاً إلى قرية البريج الواقعة في أول برّية حمص ويقسم اليوم قسمين أسفل وأعلى يشتملان كلاهما على نيف وأربعين قرية واثنتي عشرة مزرعة. فمن قرى القسم الأعلى رنكوس وحوش عرب وعبال وطفيلى والجبة وقارا وعرسال ودير عطية ويبرود وجب عدين. ومن قرى القسم الأسفل الطواني وعكوبر وبدة وحفير الفوقا والتحتا ومعلولا ونخعا والقطيفة والمعظمية وجيرود والرحيبة وضمير ومعرونا وتلفينه وعين التينة وصيدنايا والمعرّة والتل ومنين والعطنه والدريج ومعربا وحلبون.
وكان الأقدمون يسمون هذه البلاد أقليم الزبداني وفي السرياني عملا دزبديةا وصفها ياقوت بقوله :ورة مشهورة معروفة بين دمشق وبعلبك" وتدعى اليوم وادي الزبداني. ومن قراه أيضاً بلودان ويقين ومضايا وسرغايا وعين حليا.
وكان أهالي هذه البلاد بأسرهم مسيحيين من السريان والملكيين يتكلمون قاطبة باللغة السريانية العامية. وما برح قوم منهم إلى هذا اليوم يتكلمون بها سواء كانوا نصارى أو مسلمين خصوصاً في معلولا وجب عدين وبخعا وغيرها. ولبثوا محافظين على إيمانهم سائرين على تقاليد آبائهم خاضعين لرؤسائهم حتى القرن الماضي فأسلم منهم قسم صالح. ذلك لأسبابٍ تتناقلها الألسن إلى هذا الحين. منها أن رؤسائهم الروحيين يومئذٍ أبوا في إحدى سني الغلاء والقحط أن يأذنوا لهم في أكل الألبان أيام الصوم. ومنها أن خوارنتهم وكهنتهم تغافلوا عن خدمتهم وتغاضوا عن الدفاع عنهم أثناء الضيق. ومنها أنهم مرقوا من إيمانهم لهوىً في النفس أو لبواعث أخرى. وقد جرى مثل ذلك لنصارى بعض قرى طور عبدين في بلاد ما بين النهرين كالصور وتفّه وعين كاف ونونب وحلدح ودير زبينا وانحل... الخفي عهد اسمعيل بطريرك السريان المنفصلين (+1366) المعروف بالجاهل إذ أدركتهم مجاعة شدية اضطرتهم أن ينقضوا وصية الصوم فسار نخبة منهم بعد ذلك إلى البطريرك المذكور يستغفرونه فأبى عليهم ذلك فعادوا إلى بلادهم واتفقوا على هجر النصرانية ودانوا بالاسلام وعرفوا بالمحملية إلى هذا العهد.
قلنا أن لغة الأهالي في جبل قلمون أو اقليم الزبداني كانت السريانية طبقاً للهجة الباقية حتى الآن في معلولا وبخعا وجب عدين. أما السريانية الفصيحة فكانت اللغة الكتابية والطقسية للسريان والملكيين معاً. على أن السريان الملكين كانوا تابعين في ليترجية قدّاسهم ورتب صلواتهم القانونية طقس الكنيسة الانطاكية حتى القرن الثاني عشر فتغلب عليهم بطاركة القسطنطينية وألجأوهم أن يبدّلوا طقسهمالانطاكي القديم بالطقس البوزنطي فأخذوا من ثم ينقلونه إلى لغتهم السريانية وجعلوا يستعملونه في صلواتهم ولبثوا على ذلك حتى القرن الماضي فبدلوا السريانية بالعربية تماماً. وقد اشتملت دور الكتب الكبرى في رومية وباريس ولندن وبرلين وفينا واكسفرد وغيها على مخطوطات شتى تحصى بالمئات كتبها أو نسخها السريان الملكييون لاستعمالهم. ومنها عدة صالحة في بلاد المشرق ما بين خزائن كتبنا وفي ديرنا المعروف بالشرفة ولدى الآباء اليسوعيين في بيروت وغيرها.
ونحن نرى أن الكتب الطقسية اليونانية لم تنقل إلى اللغة السريانية بداءة بدء لاستعمال الكنائس بل لاستعمال الرهبان في بعض الأديار الشرقية في انطاكية وغيرها إذ كان يؤمها رغبة في الترهب قوم من اليونان التابعين للطقس القسطنطيني. فكانت الحماسة أو العبادة تحمل بعض الرهبان أو الأساقفة السريان المجاورين وتدفعهم لينقلوها إلى السريانية. ويؤيد رأينا هذا ما جاء في المصحف الواتكاني (عدد21) في مخطوط سرياني عنوانه فورش قإينا من فركسيس دشليحًاواجإةا دفولوس ايك طكسا ديونًيا. مشرا دين بحد بشبا دفأحا. "تقسيم القراءات من أعمال الرسل ورسائل بولس حسب الطقس اليوناني بدءاً من أحد الفصح" فقد ورد فيه ما تعريبه:
"طقس الجمعة العظيمة... في الساعة السادسة يذهبون إلى بيعة والدة الله ويبدأون صلاة الساعة السادسة كطقس خميس الأسرار عني يقولون الانتيفونا... وإذا حضر المعمدون ينادي الشماس: يا أيها المتأهبون ليستنيروا اقتربوا. ثم يُحضرون المستعدين للعماد إلى رئيس الكهنة فينفخ في وجههم ويصلي صلاة طقس العماد... فيقول الشماس طاس قالاس. ويصلي الكاهن صلاة من طقس رسم الكاس... ويقول الشماس ايريني فاسي. فرو الةوكن ويقول الشعب اينوما طي ايريني ليسون ويختمون الصلاة. وبعد هذا يبدأون ادودقا حسب الطقس السرياني. وفي كل ثلاث طروباريات ييقرأون من النبؤات والرسائل والانجيل(1).
وقد وردت في هذا المخطوط النفيس ملاحظات مفيدة عن استعمال الطقس السرياني الملكي. فجاء في آخره ما شرحه:
"انتهت القراءات من أعمال الرسل ورسائل مار بولس حسب الطقس اليوناني. كتب سنة 1353 – 1042م في دير مار بنطاليمون بالجبل الأسود في انطاكية. كتبه القس يوحنا بن يوسف الحقير (وهنا نسخ الكاتب بيتاً من الشعر بالسريانية) كتب هذا كتاب سنكاسارين القراءات يوحنا بن يوسف قسيس بيعة القديس مار بنطاليمون"... ثم ورد فيه "حصل هذاالكتاب جبرائيل الغريب القس والراهب في برج مار ديمط على جانب بيعة الجمعة في مدينة الله انطاكية(2)".
وجاء في هذا المخطوط بحروف عربية "اشتريت هذا الدفتر السرياني سنة 6770 – 1270م على يد غبريال بالاسم حبيس بحبس مار ديمط ملازق كنيسة الجمعة بمدينة الله انطاكية... أوقفه بولص بن صهيون من آل قرية صيدنايا. وقف مؤبد على كنيسة السيدة بصيدنايا سنة 6790 – 1290م"
وورد في مخطوط آخر يخص المكتبة الفاتكانية منسوخ سنة 1042م ما تعريبه: "نسخ هذا الطقس اليوناني ونقل عن نسخهم سنة 1353 – 1042م(3)" وجاء في المخطوط (عدد41). الواتكاني ما شرحه: "صلوا على الخاطئ الذي نقله وهو أبونا الفاضل بولس مطران شيح(4)"
ومما لا ريب فيه أن قوماً من السريان الملكيين في هذه البلاد كانوا يجهلون الكتابة والقراءة معاً باللغة اليونانية. والدليل على ذلك تدينهم الألفاظ اليونانية بحروف سرياني. فقد جاء في مخطوط سرياني ملكي قديم جداً ما نصه.
"يقول الشماس (اليوناني) سطومن قالوس سطومن كاطافوبو. فروسكومن. طين اجيان انوفوران. ايريني كريسطو ةاوفروس فاراين"
ويقول الشماس السرياني ما شرحه "الشماس السرياني. فلنقف حسناً فلنقف بخوف. ونحدق عقولنا في التقدمة المقدسة بالأمان تقرب لله (5)"
ومن البراهين القاطعة على أن السريان الملكيين كانوا محافظين على الطقس الانطاكي السرياني استعمالهم ترجمة الكتاب المقدس المعروفة بالبسيطة (فشيطةا) دون غيرها. وظلوا محافظين عليها حتى القرن السادس عشر. كما يتضح ذلك جلياً لمن يطالع فصول الأناجيل التي كانوا يقرأونها حسب طقسهم على الشعب في أيام الآحاد والأعياد وهي مكتوبة بالسريانية فقط ولا أثر للترجمة العربية حذاءها. ونضيف إلى ذلك أن السريان الملكيين كانوا إلى القرنين السابقين لعهدنا يستعملون اللغة السريانية في صكوكهم وكتاباتهم. وعندنا اليوم مخطوط جميل يشتمل على فصول الأناجيل حسب الترجمة البسيطة بالحرف السرياني الملكي نسخه كاتبه لكنيسة دير عطية في السنة 7031 – 1531م. ففي الصفحة الأولى منه يؤيد يوحنا أسقف يبرود وقفيته ويمضي اسمه بالسريانية هكذا "يوحنن افيسقوفيس" يوحنا الأسقف. وسنشبع الكلام عن هذا المخطوط النفيس فيما بعد.
وقد رأينا أن نضيف إلى ما سبق تسليةً للمستشرقين خصوصاً أن القلم السرياني الملكي يختلف عن سائر الأقلام السريانية كالسطر نجيلي القديم والسرياني الشرقي والسرياني الغربي في عدة أمور زهيدة. منها أن نقطتي الجمع المعروفتين بالسريانية سيمًا توضعان فيه للأفعال في الماضي والمضارع والأمر نحو قطًلو ونقطًلو وزبِنًو وؤَبًو.. بل توضعان أيضاً على الضمائر نحو انًون وؤًلين امرية وفي الحاضر نحو قايم وسايم وفي بعض الأسماء نحو نيًشا وليشنا وايجرةا.
وقد ورد فيه أيضاً لفظ عرونفةا بألفا وقرقبةا (6) بالباء. ومن خواصه أيضاً أن الهاء والواو توصلان مع ما بعدهما خلافاً لسائر الأٌلام السريانية.
وللغة السريانية ما عدا لهجة أهالي اقليم قلمون لهجة أخرى يستعملها أهالي طور عبدين في بلاد ما بين النهرين وهي إلى اللغة الفصيحة أقرب من لهجة سكان قلمون. وفي أنحاء الموصل لهجة أخرى سريانية يستعملها المسيحيون كأهالي قرقوش وغيرهم ويتحدث بها اليهود في مدينة زاخو وأطرافها وهي قريبة من لهجة المسيحيين النساطرة والكاثوليك في كردستان وبلاد فارس وما يليها.
ومن أهم البلاد التي كان يكثر فيها السريان الملكيون وأقدمها بلدة يبرود المجاورة للنبك في جنوبيها الغربي. ورد اسم أوسابيوس أسقفها (7) في جملة آباء المجمع الخلقيدوني وفيها اليوم كنيسة قديمة للروم الكاثوليك. وقد شيدنا نحن كذلك فيها كنيسة لطائفتنا منذ نيف وعشرين سنة.
ومنها مدينة قارا الواقعة شمالي دير عطية على مسافة ساعتين منها وجدت فيها مخطوطات عديدة نسخت بالسريانية بالقلم الملكي.