لاحظ الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته رضوان الله عليهم رجلاً من بينهم دائم الحزن والأسى , لا يضحك إذا ضحكوا , ولا يبتسم إذا ابتسموا , تُخيّم على وجهه سحابة من الهمّ والغمّ , فسأله الرسول علية الصلاة والسلام عن سبب حزنه وأساه , فقال : (( كان لي في الجاهلية صبية جميلة , تعلّق قلب أمها بها , فأحبتها حباً شديداً ملك أقطار نفسها , وأخذت هذه الصبية تكبر حتى قاربت ريعان الشباب وسن الزواج , وذات يوم وأنا أنظر إليها جاءني الشيطان ووسوس في صدري إن ابنتك هذه قد تُسبى وتُسترق , وحينئذ تحمل عارها طول حياتك وتسير بين الناس مطأطي الرأس , فأخذت أفكر في هذا الأمر الذي أهمني وأرقني , فقلت لزوجتي : إذا جاء الغد زيّني الصبية وألبسيها أجمل ثيابها , فسوف أرحل بها إلى مضارب قومي لأزوجها لأحد أقاربي هنالك , فتوجّست مني خيفة أنني أبطن في نفسي شراً بالصبية , فحلفت لها بأغلط الأيمان أنني لا أريد بها إلا الخير , ولما جاء الغد , قامت إلى ابنتها فغسلتها وألبستها أجمل ثيابها وزينتها كالعروس وودعتها بدموع غزيرة وبقلب مولّه حزين على فراقها.
وأخذت أسير ومعي الصّبية قاطعاً الفيافي والقفار متجهاً إلى بئر عميقة أعرفها , ولما اقتربنا من البئر , قلت لها : هيا نتزود بالماء , فهجمت عليها وأخذت أدفعها بقوة إلى حافة البئر وهي تبكي وتصرخ وتستنجد قائلة : رحماك يا أبتاه , لا تفجع أمي يا أبتاه , وكانت تحاول أن تدفعني إلى الوراء بما أوتيت من قوة , ومن بكائها وصراخها وضراعتها شعر قلبي بشيء من الشفقة عليها , فخارت قواي , فتركتها . وجلست المسكينة تبكي وترتجف من الرهبة والخوف , فجاءني الشيطان ووسوس في صدري " تشجع " , كن رجلاً يسير بين الناس منتصب القامة مرفوع الرأس , وإلا فالعار والخزي لاحقان بك ما حييت , ونفخ الشيطان في أوداجي , وغلى الدم في عروقي , فهجمت على الصبية بكل قوة وكتفتها بذراعي وطرحتها في جوف البئر وهي تبكي وتصرخ , وأخذت تصارع الموت تطفو وتغوص في الماء , تنادي عليّ من قاع البئر أغثني يا أبتاه ,ارحمني يا أبتاه , ما ذنبي يا أبتاه ؟ لا تفجع أمي يا أبتاه , وأخذ صوتها يخفت شيئاً فشيئاً , لا أسمع إلا صوت حشرجتها , ثم سكن كل شيء , وضمها البئر في جوفه في صمت رهيب , كان الرجل يروي مأساة أبنته المظلومة والرسول عليه السلام يبكي , والصحابة يبكون حزناً وأسى على صبية مسكينة , غدر بها أبوها دون ذنب جنته , فقط لكونها ولدت أنثى ولم تولد ذكراًً في وسط أقوام جهلة , بعيدين عن النور وعن هدي الله , فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( لو أ ُمِرتُ أن أ ُعاقب أحداً بما فعل في الجاهلية لعاقبتك ,ولكن الإسلام يجبّ ما قبله ) القرطبي : 7/ 97 بتصرّف . يقول الله تعالى في كتابه الكريم : (( وإذا الموءودةسئلت بأي ذنب قتلت )) سورة التكوير: الآية 8- 9 .
الموءودة : هي الجارية تُدفن وهي حية , سُميت بذلك لما يُطرح عليها من تراب , فيؤودها أي يثقلها حتى تموت , وفي يوم القيامة يسأل الله عزّ وجلّ الموءودة بين يدي وائدها عن سبب قتلها سخطاً وتهديداً وتوبيخاً له , لأنه قتلها بلا ذنب .
فمن أسوأ العادات التي توارثها بعض المشركين حبهم للذكور وكراهيتهم للإناث , ولم تقف كراهيتهم عند هذا الحد , ولكن الواحد منهم , كان إذا حملت امرأته وجاءها المخاض , اختفى عن أعين الناس حتى تلد , فإن علم أنها ولدت ولداً فرح وابتهج بين الناس مزهواً فخوراً , وإذا علم أنها ولدت أنثى اربدّ وجهه واسودّ , وظهر عليه الحزن والغم , وملأه الكمد والغيظ , وبقي متوارياً عن القوم مستخفياً عن الناس خزياص عاراً , وأخذ يفكر في أمره ’ متحيراً ومتردداً ماذا يفعل في الخطب الذي نزل , والكارثة التي حلّت به من ولادة البنت ؟ أيبقيها تحيا وتعيش ويتحمّل ما يناله في حياته من ذل وهوان , أم يواريها في التراب ويئدها حية حتى تموت ؟
ولقد وصف القرآن الكريم هذا الفعل الشنيع مهدداً متوعداً مرتكبه بقوله تعالى (( وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم , يتوارى من القوم من سوء ما بُشّر به , أيُمسكه على هون أم يَدسّه في التراب , ألا ساء ما يحكمون )) سورة النحل الآيتان ( 58 - 59 ) .
ما أساس وأد البنات :
( لما مات كسرى أنوشروان منع بنو تميم الإناوة التي كانت عليهم , فلما بلغ ذلك ولده هرمز قال : هل استصغرت بنو تميم شأني ومنعت الإتاوة ؟ فأرسل إلى النعمان بن المنذر عامله في الحيرة , يأمره أن يبعث الجيوش لتأديب بني تميم الذين شقوا عصا الطاعة , وأبوا أن يؤدوا الجزية لملك الملوك .
فأرسل النعمان أخاه الريان , وأمره أن يؤدب المتمردين , كان قيس بن عاصم شريفاً من أشراف بني تميم , وكانت ابنته زوجة لسيد سادات القبيلة , ووقعت الحرب , ودار القتال ولاح النصر للريان , وانكشفت خيام الحريم , ووقعن في الأسر , واستقبل النعمان أخاه الريان استقبال الغزاة , وأقام حفلاً رائعاً تغنى به الشعراء , كانت الأفراح في قصر الخورنق , وكانت الأتراح في مضارب قبيلة بني تميم , وقد زاد في حزن الرجال أن ابنة سيد القبيلة قيس بن عاصم في السبايا .
ذهب وفد بني تميم على رأسهم قيس بن عاصم إلى النعمان , ليكلموه بشأن السبي والذراري , ولما مثلوا أمام النعمان وكلموه , قال : إني جعلت الخيار في ذلك للنساء , فأية امرأة اختارت زوجها رُدّت إليه , وأمر أن تُؤتى النساء , فخفقت القلوب , وجفت الحلوق , وزاغت الأبصار , فلو أختارت المرأة سابيها على زوجها , لكان ذلك ذلاً ما ما بعده ذل وعاراً ما بعده عار .
وتقدمت النساء على استحياء , وراح النعمان يُخيّر كل واحدة منهن بين زوجها وسابيها , وتقدمت بنت قيس بن عاصم , واختارت سابيها على زوجها , وأحس قيس بن عاصم أن أنفه في الرغام , وانسل من القصر مخدوش الكرامة مطأطىء الرأس وعادت وفود بني تميم إلى منازلها , وقيس سيد القوم يجرّ أذيال العار , فقد خذلته ابنته على رؤوس الأشهاد ونكست رأسه وسودت وجهه وقد نذر أن يَدسّ كل أبنه تولد له في التراب , وظل قيس يتوارى من القوم خجلاً حتى إذا ما وضعت إحدى زوجاته بنتاً زينها ثم وأدها , وانتشر بين القبائل انتشار الريح أن بنت قيس بن عاصم اختارت سابيها على زوجها , وأن البنات لا يَجلُبن إلا العار لأهلهن , وأن قيس بن عاصم قد نذر أن يَدُسّ كل بنت تولد له في التراب وأنه وأد أول مولودة له , أثارت تلك الحادثة الغيرة في قلوب العرب ’ فأقبلوا على وأد بناتهم مخافة العار .
وانتقل الوأد إلى مكة , فكانت المرأة إذا حملت وجاءها المخاض , حفرت حفرة فإن ولدت أنثى رمت بها في الحفرة وردت التراب عليها , وإن ولدت غلاماً حملته وعادت به ( محمد رسول الله والذين معه : 7 / 75 ) .
وظل هذا الأمر على هذه الحال إلى أن جاء الإسلام , فأنقذ البنت من الوأد وأعاد لها إنسانيتها وكرامتها , أكرمها الإسلام بنتاً فأوصى بها وجعلها ستراً لأبيها من النار إن أحسن تربيتها , وأكرمها الإسلام زوجة , فلا يكرم المرأة إلا كريم , ولا يُهينها إلا لئيم وخيركم خيركم لأهله وأكرمها أ ُمّاً عندما جعل الجنة تحت أقدام الأمهات .
قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( من كان له أبنة , فأدبها فأحسن أدبها , وعلمها فأحسن تعليمها , وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه , كانت له ستراً من النار) رواه الطبراني وأبو نعيم .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( ما من مسلم تدرك عنده ابنتان , فيحسن صحبتهما إلا أدخلتاه الجنة ) كتاب الأدب المفرد : 1 / 41 .
وفي صحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : " جاءتني امرأة معها ابنتان لها , فسألتني , فلم تجد عندي غير تمرة واحدة , فأعطيتها إياها , فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئاً , ثم قامت فخرجت وابنتاها , فدخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم , فحدثته حديثها , فقال : "من ابتلى من البنات بشيء , فأحسن إليهن كن له ستراً من النار " رواه مسلم .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( أول ما يوضع في الميزان العبد نفقته على أهله ) رواه الطبراني
هذا والله اعلم ربنا ارزقنا الخير كله
وتقدمت النساء على استحياء , وراح النعمان يُخيّر كل واحدة منهن بين زوجها وسابيها , وتقدمت بنت قيس بن عاصم , واختارت سابيها على زوجها , وأحس قيس بن عاصم أن أنفه في الرغام , وانسل من القصر مخدوش الكرامة مطأطىء الرأس وعادت وفود بني تميم إلى منازلها , وقيس سيد القوم يجرّ أذيال العار , فقد خذلته ابنته على رؤوس الأشهاد ونكست رأسه وسودت وجهه وقد نذر أن يَدسّ كل أبنه تولد له في التراب , وظل قيس يتوارى من القوم خجلاً حتى إذا ما وضعت إحدى زوجاته بنتاً زينها ثم وأدها , وانتشر بين القبائل انتشار الريح أن بنت قيس بن عاصم اختارت سابيها على زوجها , وأن البنات لا يَجلُبن إلا العار لأهلهن , وأن قيس بن عاصم قد نذر أن يَدُسّ كل بنت تولد له في التراب وأنه وأد أول مولودة له , أثارت تلك الحادثة الغيرة في قلوب العرب ’ فأقبلوا على وأد بناتهم مخافة العار .
وانتقل الوأد إلى مكة , فكانت المرأة إذا حملت وجاءها المخاض , حفرت حفرة فإن ولدت أنثى رمت بها في الحفرة وردت التراب عليها , وإن ولدت غلاماً حملته وعادت به ( محمد رسول الله والذين معه : 7 / 75 ) .
وظل هذا الأمر على هذه الحال إلى أن جاء الإسلام , فأنقذ البنت من الوأد وأعاد لها إنسانيتها وكرامتها , أكرمها الإسلام بنتاً فأوصى بها وجعلها ستراً لأبيها من النار إن أحسن تربيتها , وأكرمها الإسلام زوجة , فلا يكرم المرأة إلا كريم , ولا يُهينها إلا لئيم وخيركم خيركم لأهله وأكرمها أ ُمّاً عندما جعل الجنة تحت أقدام الأمهات .
قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( من كان له أبنة , فأدبها فأحسن أدبها , وعلمها فأحسن تعليمها , وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه , كانت له ستراً من النار) رواه الطبراني وأبو نعيم .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( ما من مسلم تدرك عنده ابنتان , فيحسن صحبتهما إلا أدخلتاه الجنة ) كتاب الأدب المفرد : 1 / 41 .
وفي صحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : " جاءتني امرأة معها ابنتان لها , فسألتني , فلم تجد عندي غير تمرة واحدة , فأعطيتها إياها , فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئاً , ثم قامت فخرجت وابنتاها , فدخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم , فحدثته حديثها , فقال : "من ابتلى من البنات بشيء , فأحسن إليهن كن له ستراً من النار " رواه مسلم .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( أول ما يوضع في الميزان العبد نفقته على أهله ) رواه الطبراني
هذا والله اعلم ربنا ارزقنا الخير كله