مسرح الماغوط: الكتابة بالسكين
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]السكين لا القلم هو ما يكتب به محمد الماغوط أعماله، سواء كانت تلك قصائد أو مقالات أو مسرحيات، وهو يعمل القلم في ذلك الجزء الذي يبدو سليما من الجسد وينكأ الجراح المنتشرة فيه حتى لا تكون هناك راحة واسترخاء، وحتى لا تكون هناك طمأنينة إلى أن الجسد سليم معافى، فالجسد ليس سليما، بل مريض مثخن بالجراح من الرأس حتى أخمص القدم، والتغافل عن هذه الحقيقة يعني مزيدا من الجراح ومزيدا من الخراب.
السكين التي يكتب بها الماغوط هي سكين السخرية الجارحة القاتمة القاتلة المقطعة للأوصال، والجسد هو جسد المواطن العربي - بالمعنى الحرفي للكلمة - الذي أنهكته سياط الجلادين قبل أن ينهكه بؤس الحياة نفسها، والذي عانى من خيانات الأصدقاء أكثر مما عانى من طعنات الخصوم وهزمته الزنازين والأقبية قبل أن يهزمه الأعداء فتحول من "إنسان" يبحث عن مستقبل مشرق في وطنه الحر السعيد إلى "حطام إنسان" يبحث في حاويات القمامة عما يسد به رمقه.
وهذا البؤس وتلك القتامة ليست وليدة أخطاء هنا أوهناك، كما أنها ليست أخطاء في تطبيق نظريات التقدم السياسي والعدالة الاجتماعية حدثت في هذا البلد أو ذاك، بل هي وليدة خلل في المجتمعات العربية تراكم عبر تاريخ دموي مليء بالقمع والاضطهاد وتجريد الإنسان من آدميته، يتساوى في ذلك الحاضر مع التاريخ الحديث والقديم، والأمجاد التي يكثر الحديث عنها، هي مجرد قصائد تلقى وأناشيد ترتل وأغاني تؤدى، وهي في واقع الأمر نقيض الواقع والتاريخ معا، وما يزيد الأمر قتامة أن الذين يحاولون أن يغيروا هذا الواقع عادة ما يكونون حالمين أو انتهازيين، وإن نجحوا في إحراز نصر ما فإن هذا النصر محكوم بالوقوع في أيدي مجموعة من اللصوص وسارقي النصر والثورات والفرح.
في مسرحيات الماغوط يجد المتفرج نفسه وجها لوجه أمام التناقضات التي تعيشها مجتمعاتنا، وهي عديدة فهناك التناقضات بين طبقات المجتمع وفئاته؛ تناقضات الحاكم والمحكوم، الضحية والجلاد الثري والمسحوق المثقف والجاهل المناضل والانتهازي الثائر وسارق الثورة، وهناك تناقضات المجتمع مع قيمه؛ تناقضات بين الإنشاء الذي يملأ حياتنا عن واقعنا الزاهي وحياتنا الرضية ومجتمعنا المتكافل، وبين واقعنا الحقيقي الذي ينتشر فيه الفقر والجهل والظلم والاضطهاد ويسود التآمر وتكثر الوشايات والدسائس. تناقضات بين الإنشاء الفارغ الذي يتحدث عن المواطن باعتباره القيمة العليا في المجتمع وبين الحقيقة المرة التي ترى في المواطن عبئا ثقيلا يجب التخلص منه بالسجن (ضيعة تشرين)، أو بإقصائه خارج البلاد في غربة أكثر إذلالا من البقاء على أرض الوطن (غربة).
تكاد هذه الأفكار أن تكون قاسما مشتركا في أعمال الماغوط جميعا من شعر ومقالة ومسرح، ولكن بسبب الطبيعة الخاصة بالمسرح، باعتباره الفن الذي يطرح القضايا الكبرى للإنسان والمجتمع فإن السخرية تصبح أكثر حدة وتتسع مساحتها لتشمل الحاضر والماضي ولا تترك فسحة من الأمل للمستقبل في لوحة سوداء قاتمة لا تخترقها سوى أغنية شجية تنبعث من عمق المشهد أو نشيد حزين تتردد أصداؤه في جنبات المسرح.
مسرح محمد الماغوط مسرح أفكار أساسا، ولكنه لا يعبر عن هذه الأفكار من خلال أحداث متسلسلة تتطور دراميا نحو ذروة تحل في نهاية المسرحية، وعلى إيقاع هذه الأحداث تتطور الشخصيات وتتحدد مصائرها كما هو شأن المسرح التقليدي، بل من خلال معادلة مختلفة تماما، معادلة تتوالي فيها المشاهد واحدا إثر الآخر لترسم في النهاية صورة المجتمع الذي نعيشه وموقع المواطن فيه، وهي في العادة صورة داكنة لمجتمع منخور، أما موقع المواطن فيها فأكثر المناطق سوادا.
المعادلة المسرحية لدى الماغوط تبدو بسيطة لا تعقيد فيها، فهي تنطلق من وضع المجتمع أمام تناقضاته مباشرة، من دون أي محاولة للتنميق أو التجميل أو التزيين. تناقضات اجتماعية وسياسية وثقافية وقيمية تبدو في كثير من الأحيان مضخمة في صورة كاريكاتورية تستثير ضحكا أسود كالبكاء. والشخصيات في مسرحياته تنتمي إلى ذلك النوع المعروف بالشخصيات المسطحة(Flat Characters) ، وهي الشخصيات التي لا تتطور دراميا على مدى زمن المسرحية، ليس لعيب في تركيبها الدرامي أو في رسمها، بل لأنها تمثل قيمة ما أو طبقة أو فئة اجتماعية؛ في مسرحيات ضيعة تشرين وغربة وكاسك يا طن وشقائق النعمان، تقف كل شخصية فيها لتمثل فئة اجتماعية أو قيمة إنسانية ما. في "ضيعة تشرين" و"غربة" هناك المختار الذي يمثل السلطة، وهناك سكان الضيعة الذين يتوزعون على الفئات الاجتماعية المختلفة، وبعضهم يمثل قيما إنسانية نبيلة أو قبيحة؛ المدرس الذي يريد نشر التعليم بين جمهور الضيعة الجاهل، والعجوز غربة، التي تمثل الجانب المشرق والإنساني في مجتمع القرية، وفي "كاسك يا وطن" هناك المواطن المسحوق الذي يجاهد يوميا حتى "لا يبقى لديه من الوقت ما يمكنه من شكر الحكومة على كل ما تقدمه لمواطنيها" كما يقول. وفي المقابل هناك عشرات الانتهازيين والوصوليين، وهناك الجلادون بالمعنى الحرفي للكلمة، وهناك الناس العاديون الذين يعانون من الجهل والمرض والفقر من دون شكوى أو تذمر مستسلمين لها وكأنها قدر كتب عليهم، وفي شقائق النعمان هناك الشهيد الذي يفترض أن يمثل في بلادنا قيمة سامية، وهناك السكان العاديون الذين يتوزعون على الوطن العربي بأكمله.
على المستوى الفني تتحول هذه الشخصيات إلى شخصيات رقمية يلعب كل ممثل عددا كبيرا منها في محاولة لكسر الإيهام وتحويل الانتباه إلى خشبة المسرح للحؤول دون الاندماج مع ما يجري عليها بل اليقظة تجاهها، بطريقة تذكر بأسلوب بريخت الشهير القائم على التذكير بأن ما يجري على خشبة المسرح ما هو ألا رواية تروى. وقد مكن ذلك الماغوط من أن يوظف أكبر عدد ممكن من الأساليب الفنية لتعزيز أفكاره تلك من الميلودراما التي كثيرا ما نراها في قصة حب تنسج بين شاب وفتاة على هامش أحداث المسرحية، وحتى الفنتازيا التي تأتي من خلال مزج الأزمنة في مشهد واحد، في مسرحية "شقائق النعمان" يظهر أحد الخلفاء العابثين وهو يدندن بأغنية حديثة، أو من خلال مشهد يقف فيه المواطن البسيط في "كاسك يا وطن" على قارعة الطريق عارضا أبناءه للبيع. أو من خلال شخصية المرحوم، ذلك الميت الذي يشكو من الظلم الذي يلاحقه حتى بعد أن رحل من الدنيا إلى الآخرة.
في مسرحية "المهرج" يلجأ الماغوط إلى حيلة مسرحية مختلفة عبر مقابلة الماضي بالحاضر وهي حيلة أصبحت أثيرة لديه فكررها في معظم مسرحياته اللاحقة، وتقوم المقابلة في "المهرج" عبر استحضار شخصية "صقر قريش"، تلك الشخصية المبجلة في تاريخنا العربي ويحكم عليها بالعيش في زمننا الحاضر لتبدو المفارقة ليس بين مستويات اجتماعية مختلفة هذه المرة، بل بين ماض نعتبره مجيدا وحاضر لا مجد فيه على الإطلاق. والأوضاع المريرة في مجتمعاتنا الراهنة ليست نقيضا لتاريخ عربي مشرف ومضيء كما تذهب الأفكار الإنشائية المتداولة بكثرة في بلادنا، بل هي استمرار لذلك التاريخ، وهي منبثقة عنه. وهذه الأوضاع المهلهلة اليوم ما هي إلا تعبير حديث عن أوضاع أكثر هلهلة كانت سائدة في بلادنا في الماضي، وهي بالتالي الابنة الشرعية لذلك التاريخ الذي لم يكن مشرقا ومضيئا كما يقال، فهو في الحقيقة ممتلئ دما ورؤوسا مقطوعة وجثثا ممثلا بها، وأسلافنا العظام لم يكونوا في الواقع شجعانا عادلين مؤمنين بالضرورة بل كان فيهم المتهتكون والماجنون وعبيد الشهوات والملذات وصرعى الغواني.
المقابلة بين الماضي والحاضر موضوعة أساسية في مسرحيات الماغوط. ففي "ضيعة تشرين" يشير المواطن البسيط الذي يؤدي دوره دريد لحام إلى الأندلس باعتبارها وطنا سليبا، وإلى القصائد التي تقال في استرجاع فلسطين قائلا "إن لديه شعرا يستطيع أن يسترجع به الأندلس". وفي "كاسك يا وطن" تحضر الأندلس حين يتذكر ذلك المواطن أن العرب هم الذين كانوا يمثلون الاستعمار هناك.
في مسرحية "شقائق النعمان" يرسم الماغوط مقابلة الماضي مع الحاضر على مستويين مستوى مقابلة الحاضر البائس مع الماضي القريب الذي يتمثل في عودة الشهيد (دريد لحام) ليكتشف أن أخاه قد استولى على إرثه ولم يبق له شيئا فيضطر للسكن في المقابر، ومقابلة الحاضر مع الماضي البعيد حيث الخليفة يلاحق غانية في مشهد ويأمر بقطع رأس أحد المعارضين في مشهد آخر لتكتمل صورة الماضي الذي لا يقل بشاعة عن الحاضر.
لكنه في مسرحية "المهرج" يسترجع الماضي ليقول شيئا مختلفا، فهو يسترجع الماضي في صورة شخصية عبد الرحمن الداخل "صقر قريش"، الذي يجد نفسه في مواجهة آلة القمع في الوقت الراهن بما فيها من حداثة وقسوة فيضعف أمامها ويتحول، هو البطل التاريخي الهارب من بطش العباسيين وفاتح الأندلس ومؤسس الخلافة فيها، إلى جبان رعديد غير قادر على الصمود أمام آلة القمع الحديثة الجبارة.
لقد نظر الماغوط حوله فرأى القتامة والسواد والخراب. لم يهمل الناس البسطاء الذين يجابهون كل هذا الظلم بالصبر وبالأغاني الجميلة، ولم يتجاهل وجود أوجه للخير في مجتمعاتنا، ولكنه الخير المسروق دائما حيث يكافأ الشهداء بالطرد والزجر والإقصاء، و يكون مصير أبنائهم الإهمال والحرمان والتجاهل. ولم ينس الماغوط أن هناك كوى للأمل في هذه الصورة السوداء، لكنها بالنسبة له مجرد كوى متناثرة هنا وهناك، أما مجمل الصور فقتامة تشمل الماضي والحاضر وتلقي ظلالها على المستقبل، لذا فقد اختار الاستفزاز والكتابة بالسكين، فمن غير الماغوط يمكنه أن يعطي أحد كتبه عنوانا مثل "سأخون وطني"؟ أو لمسرحية عنوانا مثل "كاسك يا وطن"؟
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]السكين لا القلم هو ما يكتب به محمد الماغوط أعماله، سواء كانت تلك قصائد أو مقالات أو مسرحيات، وهو يعمل القلم في ذلك الجزء الذي يبدو سليما من الجسد وينكأ الجراح المنتشرة فيه حتى لا تكون هناك راحة واسترخاء، وحتى لا تكون هناك طمأنينة إلى أن الجسد سليم معافى، فالجسد ليس سليما، بل مريض مثخن بالجراح من الرأس حتى أخمص القدم، والتغافل عن هذه الحقيقة يعني مزيدا من الجراح ومزيدا من الخراب.
السكين التي يكتب بها الماغوط هي سكين السخرية الجارحة القاتمة القاتلة المقطعة للأوصال، والجسد هو جسد المواطن العربي - بالمعنى الحرفي للكلمة - الذي أنهكته سياط الجلادين قبل أن ينهكه بؤس الحياة نفسها، والذي عانى من خيانات الأصدقاء أكثر مما عانى من طعنات الخصوم وهزمته الزنازين والأقبية قبل أن يهزمه الأعداء فتحول من "إنسان" يبحث عن مستقبل مشرق في وطنه الحر السعيد إلى "حطام إنسان" يبحث في حاويات القمامة عما يسد به رمقه.
وهذا البؤس وتلك القتامة ليست وليدة أخطاء هنا أوهناك، كما أنها ليست أخطاء في تطبيق نظريات التقدم السياسي والعدالة الاجتماعية حدثت في هذا البلد أو ذاك، بل هي وليدة خلل في المجتمعات العربية تراكم عبر تاريخ دموي مليء بالقمع والاضطهاد وتجريد الإنسان من آدميته، يتساوى في ذلك الحاضر مع التاريخ الحديث والقديم، والأمجاد التي يكثر الحديث عنها، هي مجرد قصائد تلقى وأناشيد ترتل وأغاني تؤدى، وهي في واقع الأمر نقيض الواقع والتاريخ معا، وما يزيد الأمر قتامة أن الذين يحاولون أن يغيروا هذا الواقع عادة ما يكونون حالمين أو انتهازيين، وإن نجحوا في إحراز نصر ما فإن هذا النصر محكوم بالوقوع في أيدي مجموعة من اللصوص وسارقي النصر والثورات والفرح.
في مسرحيات الماغوط يجد المتفرج نفسه وجها لوجه أمام التناقضات التي تعيشها مجتمعاتنا، وهي عديدة فهناك التناقضات بين طبقات المجتمع وفئاته؛ تناقضات الحاكم والمحكوم، الضحية والجلاد الثري والمسحوق المثقف والجاهل المناضل والانتهازي الثائر وسارق الثورة، وهناك تناقضات المجتمع مع قيمه؛ تناقضات بين الإنشاء الذي يملأ حياتنا عن واقعنا الزاهي وحياتنا الرضية ومجتمعنا المتكافل، وبين واقعنا الحقيقي الذي ينتشر فيه الفقر والجهل والظلم والاضطهاد ويسود التآمر وتكثر الوشايات والدسائس. تناقضات بين الإنشاء الفارغ الذي يتحدث عن المواطن باعتباره القيمة العليا في المجتمع وبين الحقيقة المرة التي ترى في المواطن عبئا ثقيلا يجب التخلص منه بالسجن (ضيعة تشرين)، أو بإقصائه خارج البلاد في غربة أكثر إذلالا من البقاء على أرض الوطن (غربة).
تكاد هذه الأفكار أن تكون قاسما مشتركا في أعمال الماغوط جميعا من شعر ومقالة ومسرح، ولكن بسبب الطبيعة الخاصة بالمسرح، باعتباره الفن الذي يطرح القضايا الكبرى للإنسان والمجتمع فإن السخرية تصبح أكثر حدة وتتسع مساحتها لتشمل الحاضر والماضي ولا تترك فسحة من الأمل للمستقبل في لوحة سوداء قاتمة لا تخترقها سوى أغنية شجية تنبعث من عمق المشهد أو نشيد حزين تتردد أصداؤه في جنبات المسرح.
مسرح محمد الماغوط مسرح أفكار أساسا، ولكنه لا يعبر عن هذه الأفكار من خلال أحداث متسلسلة تتطور دراميا نحو ذروة تحل في نهاية المسرحية، وعلى إيقاع هذه الأحداث تتطور الشخصيات وتتحدد مصائرها كما هو شأن المسرح التقليدي، بل من خلال معادلة مختلفة تماما، معادلة تتوالي فيها المشاهد واحدا إثر الآخر لترسم في النهاية صورة المجتمع الذي نعيشه وموقع المواطن فيه، وهي في العادة صورة داكنة لمجتمع منخور، أما موقع المواطن فيها فأكثر المناطق سوادا.
المعادلة المسرحية لدى الماغوط تبدو بسيطة لا تعقيد فيها، فهي تنطلق من وضع المجتمع أمام تناقضاته مباشرة، من دون أي محاولة للتنميق أو التجميل أو التزيين. تناقضات اجتماعية وسياسية وثقافية وقيمية تبدو في كثير من الأحيان مضخمة في صورة كاريكاتورية تستثير ضحكا أسود كالبكاء. والشخصيات في مسرحياته تنتمي إلى ذلك النوع المعروف بالشخصيات المسطحة(Flat Characters) ، وهي الشخصيات التي لا تتطور دراميا على مدى زمن المسرحية، ليس لعيب في تركيبها الدرامي أو في رسمها، بل لأنها تمثل قيمة ما أو طبقة أو فئة اجتماعية؛ في مسرحيات ضيعة تشرين وغربة وكاسك يا طن وشقائق النعمان، تقف كل شخصية فيها لتمثل فئة اجتماعية أو قيمة إنسانية ما. في "ضيعة تشرين" و"غربة" هناك المختار الذي يمثل السلطة، وهناك سكان الضيعة الذين يتوزعون على الفئات الاجتماعية المختلفة، وبعضهم يمثل قيما إنسانية نبيلة أو قبيحة؛ المدرس الذي يريد نشر التعليم بين جمهور الضيعة الجاهل، والعجوز غربة، التي تمثل الجانب المشرق والإنساني في مجتمع القرية، وفي "كاسك يا وطن" هناك المواطن المسحوق الذي يجاهد يوميا حتى "لا يبقى لديه من الوقت ما يمكنه من شكر الحكومة على كل ما تقدمه لمواطنيها" كما يقول. وفي المقابل هناك عشرات الانتهازيين والوصوليين، وهناك الجلادون بالمعنى الحرفي للكلمة، وهناك الناس العاديون الذين يعانون من الجهل والمرض والفقر من دون شكوى أو تذمر مستسلمين لها وكأنها قدر كتب عليهم، وفي شقائق النعمان هناك الشهيد الذي يفترض أن يمثل في بلادنا قيمة سامية، وهناك السكان العاديون الذين يتوزعون على الوطن العربي بأكمله.
على المستوى الفني تتحول هذه الشخصيات إلى شخصيات رقمية يلعب كل ممثل عددا كبيرا منها في محاولة لكسر الإيهام وتحويل الانتباه إلى خشبة المسرح للحؤول دون الاندماج مع ما يجري عليها بل اليقظة تجاهها، بطريقة تذكر بأسلوب بريخت الشهير القائم على التذكير بأن ما يجري على خشبة المسرح ما هو ألا رواية تروى. وقد مكن ذلك الماغوط من أن يوظف أكبر عدد ممكن من الأساليب الفنية لتعزيز أفكاره تلك من الميلودراما التي كثيرا ما نراها في قصة حب تنسج بين شاب وفتاة على هامش أحداث المسرحية، وحتى الفنتازيا التي تأتي من خلال مزج الأزمنة في مشهد واحد، في مسرحية "شقائق النعمان" يظهر أحد الخلفاء العابثين وهو يدندن بأغنية حديثة، أو من خلال مشهد يقف فيه المواطن البسيط في "كاسك يا وطن" على قارعة الطريق عارضا أبناءه للبيع. أو من خلال شخصية المرحوم، ذلك الميت الذي يشكو من الظلم الذي يلاحقه حتى بعد أن رحل من الدنيا إلى الآخرة.
في مسرحية "المهرج" يلجأ الماغوط إلى حيلة مسرحية مختلفة عبر مقابلة الماضي بالحاضر وهي حيلة أصبحت أثيرة لديه فكررها في معظم مسرحياته اللاحقة، وتقوم المقابلة في "المهرج" عبر استحضار شخصية "صقر قريش"، تلك الشخصية المبجلة في تاريخنا العربي ويحكم عليها بالعيش في زمننا الحاضر لتبدو المفارقة ليس بين مستويات اجتماعية مختلفة هذه المرة، بل بين ماض نعتبره مجيدا وحاضر لا مجد فيه على الإطلاق. والأوضاع المريرة في مجتمعاتنا الراهنة ليست نقيضا لتاريخ عربي مشرف ومضيء كما تذهب الأفكار الإنشائية المتداولة بكثرة في بلادنا، بل هي استمرار لذلك التاريخ، وهي منبثقة عنه. وهذه الأوضاع المهلهلة اليوم ما هي إلا تعبير حديث عن أوضاع أكثر هلهلة كانت سائدة في بلادنا في الماضي، وهي بالتالي الابنة الشرعية لذلك التاريخ الذي لم يكن مشرقا ومضيئا كما يقال، فهو في الحقيقة ممتلئ دما ورؤوسا مقطوعة وجثثا ممثلا بها، وأسلافنا العظام لم يكونوا في الواقع شجعانا عادلين مؤمنين بالضرورة بل كان فيهم المتهتكون والماجنون وعبيد الشهوات والملذات وصرعى الغواني.
المقابلة بين الماضي والحاضر موضوعة أساسية في مسرحيات الماغوط. ففي "ضيعة تشرين" يشير المواطن البسيط الذي يؤدي دوره دريد لحام إلى الأندلس باعتبارها وطنا سليبا، وإلى القصائد التي تقال في استرجاع فلسطين قائلا "إن لديه شعرا يستطيع أن يسترجع به الأندلس". وفي "كاسك يا وطن" تحضر الأندلس حين يتذكر ذلك المواطن أن العرب هم الذين كانوا يمثلون الاستعمار هناك.
في مسرحية "شقائق النعمان" يرسم الماغوط مقابلة الماضي مع الحاضر على مستويين مستوى مقابلة الحاضر البائس مع الماضي القريب الذي يتمثل في عودة الشهيد (دريد لحام) ليكتشف أن أخاه قد استولى على إرثه ولم يبق له شيئا فيضطر للسكن في المقابر، ومقابلة الحاضر مع الماضي البعيد حيث الخليفة يلاحق غانية في مشهد ويأمر بقطع رأس أحد المعارضين في مشهد آخر لتكتمل صورة الماضي الذي لا يقل بشاعة عن الحاضر.
لكنه في مسرحية "المهرج" يسترجع الماضي ليقول شيئا مختلفا، فهو يسترجع الماضي في صورة شخصية عبد الرحمن الداخل "صقر قريش"، الذي يجد نفسه في مواجهة آلة القمع في الوقت الراهن بما فيها من حداثة وقسوة فيضعف أمامها ويتحول، هو البطل التاريخي الهارب من بطش العباسيين وفاتح الأندلس ومؤسس الخلافة فيها، إلى جبان رعديد غير قادر على الصمود أمام آلة القمع الحديثة الجبارة.
لقد نظر الماغوط حوله فرأى القتامة والسواد والخراب. لم يهمل الناس البسطاء الذين يجابهون كل هذا الظلم بالصبر وبالأغاني الجميلة، ولم يتجاهل وجود أوجه للخير في مجتمعاتنا، ولكنه الخير المسروق دائما حيث يكافأ الشهداء بالطرد والزجر والإقصاء، و يكون مصير أبنائهم الإهمال والحرمان والتجاهل. ولم ينس الماغوط أن هناك كوى للأمل في هذه الصورة السوداء، لكنها بالنسبة له مجرد كوى متناثرة هنا وهناك، أما مجمل الصور فقتامة تشمل الماضي والحاضر وتلقي ظلالها على المستقبل، لذا فقد اختار الاستفزاز والكتابة بالسكين، فمن غير الماغوط يمكنه أن يعطي أحد كتبه عنوانا مثل "سأخون وطني"؟ أو لمسرحية عنوانا مثل "كاسك يا وطن"؟