[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
زبيبة والملك الكاتب : السيد الرئيس القائد صدام حسين
زبيبة والملك الكاتب : السيد الرئيس القائد صدام حسين
فـي الــــعـــــــــراق بلـــــد ســـــومــــــر ، واكد ، وبابل ، واشور ، والحضر ، وبغداد ، وسامراء .. بلد كل صفر أغر ، وكل ماجدة بهية ، من غيرها ما كانت الشمس لتخلق ولا وجد القمر سبيله في السماء ، ولا استقام نبت على ساقه ، يعجب الزراع ، ليغيض به الكفار ، ولما كان المطر ...
في ارض العراق ، مثلما هي غنية بقصص الفروسية والعمل والبناء ، والإيمان في السهل والجبل ، وفي الهور حيث ينعكس في ليلة مقمرة على سطح مائه الجدي وزحل، تجد الغرائب إلى جانبها ، والنقائض إلى جانب ما يعجبك منها ..
ولــكـن في العراق ، لا يفرخ الدجل ، ولا يوجد فيه هزال ، وليس فيه صفة الهزل .. فيه : كان يا ماكان .. هكذا روت عجوز من قريتنا ، اسكنها أهلي وكنت أناديها : جدتي ، وكانت حكيمة ذكية ، يعود أهل القرية إليها ، نساء ورجالا، لينهلوا منها النصيحة والحكمة ، بل وكانت طبيبة القرية ايضا ، يحبها الصبيان والصبايا كثيرا ، ويستمعون إلى حكمها وحكاياتها إلى جانب الكبار ، رجالا ونساء ..، حكت لنا يوما وقالت :
كان في قديم الزمان ، ملك عظيم المكانة والشأن .. يبسط نفوذه ،وانطوت له الأجنحة احتراما ، وسلاما ومحبة ، وأمانا ، أو هيبة وخوفا من الخائفين من فعل أنفسهم .. كان ذلك قبل أن يريد الله عن طريق رسله وأنبيائه ، وضع حدود واضحة لما يعد حلالا أو حراما ، أو قبل أن يكون الناس مستقرين على قاعدته ، طائعين لمعانيها وشرائعها ، أو طقوسها ، بنفس الدقة والوضوح اللذين صاروا عليهما في ما بعد .. سلم ناسه له ، بين طائع أو مجبر ، بعد أن صار ملك زمانه : ملك الجهات الأربع ،وهكذا كان من يريد ان تنحني له الرقاب طائعة إلى مدى وعمق أعمق من عمق المكان الذي يحل فيه عرشه ويؤثر فيه ، من ملوك لاينتسبون إليه ، ويحكمون خارج مقر حكمه ، في أعماق العالم القديم ، والى المدى الذي صار من يخشون سطوته ، ان لم يقتنعوا بحكمهم شعبهم ، باسمه ، يحكمون ويعلون ويطاعون ..
انقطعت الجدة عن الكلام لمتابعة شأن من شؤونها في تلك الليلة الشتائية ، ونحن نتحلق قرب نار لا تكاد تدفئ إلا من كان لصيقا بها ، ولم اعرف مغزى هذه الرواية العجيبة ، لكنني اعرف هذه المرأة جيدا ، واعرف إنها كانت حكيمة بما يكفي ، قياسا بأهل زمانها ، ضمن حدود المكان الذي كانت تعيش فيه مع أهل قريتنا الغافية على نهر الزاب ،على مقربة من جبل مكحول ، إلى الشمال الشرقي منه وعلى الضفة الشرقية من نهر دجلة قبالة مدينة الشرقاط ،حيث آثار مدينة آشور التي يعود تأسيسها إلى الألف الثالث قبل الميلاد ، في العصر الآشوري الأول ..
اعرف ان الجدة هذه كانت تتعمد ان تلتقط لنا حكاية ، ربما بعضها مبتكر ، وبعضها من قصص التراث الشعبي ، مع ما يمكن ان تدخله عليها ، أو تحذفه منها ، بما يجعلها ملائمة للمغزى الذي تريد ان نلتقطه منها ،ويؤثر فينا بما يحقق هدفها ..، وكانت جدتي مثلما هو شان كل الجدات المربيات لأجيال من الشباب والشابات ، من أبناء بناتهن أو أبناء أولادهن ، تحرص على أن تظهر مع تركيز خاص لما تريد ان نتمتع ونتخلى عنه ، أو نتمسك ونعمل به ، من خلال قصة أو رواية، وكل حسب ظرفه وهدفه ..
هكذا كانت الجدات ، بل العمات والخالات ايضا ، ممن تكون أعمارهن في الأغلب ، اكبر من أعمار الأمهات ، يعتنين بهذا النوع من القصص ،وكن بما يروينه من روايات أو أمثال وحكم كأنهن تلفزيون بيت ، بل وليت تلفزيونات هذا العصر تصل في جوانبها التربوية إلى عشر معشار ما كنا نتلقى من دروس على أيديهن ..، وكان بعض الرجال يروي في المضايف والدواوين ، أو في البيوت ، بين الأهل ، ما هو شبيه بهذا ، بما يربي معاني الفروسية والتقاليد الطبية بين الفتية والشباب ..
واصلت الحكيمة حكايتها :
ضاق صدر الملك من وحدته في قصره ، فخرج طالبا الفلاة خارج المدينة ، ولاح له قصر منيف من بعيد .. وبعد ان سار هو وموكبه باتجاهه بما يقرب من نصف ساعة في حسابات الزمن لهذا العصر ، بين ان يهذبوا على الخيول او يغيروا ، او يسيروا بصورة اعتيادية ، اقترب الملك وموكبه من القصر ، ورآه كأنه قصره الذي خرج منه لتوه ، ولكنه اصغر حجما منه بقليل .. وعندما سال عن عائدية القصر ، قيل له انه لتاجر كبير ، صديق للكثرة الكاثرة من الأمراء ، ويقيم فيه الدعوات الفخمة .. أما المزرعة وما فيها ، فقد أهداها له ، أو لوالده ، واحد من الملوك السابقين .
هنا حاولت الراوية الحكيمة ان تمزح معنا : ألا ينبغي ان يكون أصدقاء الأمراء ، ومن يتقبلون الدعوات ليكونوا على موائدهم ، من العناوين الكبيرة :تجارا كبارا ، إقطاعيين كبارا .. أصحاب نفوذ كبارا ، متعهدي دور العبادة .. حتى سماسرة كبارا ؟.. ثم أليس الملوك كرماء من أموال الشعب لغير الشعب ؟.. أليس كرمهم للأغنياء ، يا أبنائي ، أم تعتقدون إنكم تصيبون شيئا منه !؟..
هكذا ، أكرم احد الملوك صاحب القصر المنيف حسقيل بما أكرمه ، وبقيتم انتم على هذا الحال مع جدتكم ، في هذا ( الخربوش ) الذي بالكاد يصعد لريح الشتاء ، اما المطر ، فيتخلل من سقفه كلما ابتل بنقاط قليلة منه !!..
قالت ذلك وهي تضحك ، بل وتقهقه أحيانا ، كنا لشقاوتنا نضحك عندما تظهر أسنانها متفرقة ، حيث الزمن هدم جزءا منها هنا ، وجزءا آخر هناك ، وبالكاد بقي نصف الأسنان بين فكيها ، بعد ان برى الزمن ما براه منها ، حتى أبقى جذورها وما فوقها بقليل ...
وعندما كانت تتحدث عن الملك والملك والملكية ، كانت تلوك الكلمات ، وتحبس كل واحدة منها بين شفتيها لحظة من الزمن ، حتى تتحول إلى أحرف ، كأنها بهذا تجبر خاطرها وما فيها من قصور في الجاه والملكية والقدرة ...
وعندما تتذكر كيف زفوها لابن عمها ، لقاء صداق لم يتجاوز عشر نعاج، قبضها والدها ، دون ان يعطيها واحدة منها ، او يشتري لها حتى ولو ثوبا( دشداشة ) جديدا واحدا .. تتجرع الحسرات ، برغم ان ذلك قد حصل منذ ما يقرب من الأربعين عاما في الأقل ..
نبهنا الراوية لكي لا تتحول عن حكاية او قصة الملك الى قصتها هي ، فعادت لتقول :
- استغرب الملك مما سمعه عن حسقيل وقصره ، ولكنه تابع المسير باتجاه كوخ صغير كان الأقرب الى السياج الخارجي لقصر حسقيل ، فتبعه حسقيل على ظهر جواد ، بعد ان عرف ان الملك جاء الى قصره ، لكنه لم يدخله .. وكان الملك قد أمر الحرس بأن يمنعوه من ان يدنو منه ، مذ ان اقترب من الكوخ ، الذي خرجت منه فتاة جميله في مقتبل العمر ، اسمها زبيبة ..
رحبت زبيبة بالملك ، وناشدته بمنطق عالي المستوى ، وبأدب جم ، ان يترجل ، لتقوم بخدمة الضيافة ..
وكان شيخ طاعن في السن يقف الى جانب زبيبة ، استطاع ان يقدر انه من عائلتها ..
ترجل الملك .....
وعندما التمست زبيبة من الملك ان يدخل الكوخ ، دخله فعلا ، وأجلسته على كرسي صنع من سعف النخيل .. ولكن الملك لاحظ ان الكوخ نظيف من الداخل ، وان أشياءه وضعت وفق ترتيب وتناسق خاصين ..
أليست تعقيدات القصور ، وأشياؤها ، وجدرانها السميكة مما تعافه نفس من لا يكون فقير معنى ، يتشبث بالمظاهر غير الضرورية ، إلى الحد الذي تميت نفسه ، وحتى ذوقه ؟ الا تنمي هذه الصلة المباشرة بالطبيعة ، كما هي ، الذوق ، قدرة اختيار الألوان المناسبة ، مثلما ينمي الهواء الطلق الصحة والبناء النفسي للانسان ؟..
أجابت زبيبة عن كل تساؤلات الملك حول حياتهم ، وأشيائهم ، وظروفهم ، بما بهر الملك ،وخاصة عندما كانت تتوسع في الإجابة بطريقة أبقت الملك بحاجة ليستمع المزيد .. وكانت كلما خاطبت الملك ، او أجابت عن شيء ، تردفه بمستوى عال من اللياقة والأدب ، الى جانب البساطة وليس التعقيد ، وبما يريح النفس ، ويغني المعرفة ..
أعجب الملك بزبيبة ..
أليست بساطة زبيبة ، وذكاؤها الفطري المختبر بتجربته، وعدم تصنعها في السلوك ، هو ما يحتاج إليه القابع في قصره ، والذي لا يرى ، ولا يسمع الا ما هو جزء محسوب مسبقا في سياق ممل وثقيل !؟..
نعود الى ما قالته لنا العجوز عن ذلك الملك الذي تدور حول محوره روايتنا هذه :
بعد ان اكثر الترداد على بيتها ، وبعد ان صارت زبيبة تزوره ومن وفق ما سيأتي ذكره لاحقا ، انتهى الملك الى ان احب زبيبة حبا جما ، لم يرتق اليه حب أي امرأة أحبها تحت أي عنوان ، ومن ذلك زوجاته وحبيباته .. كانت إذا مشت على الأرض يفلت قلبه خارج قفص صدره ليباريها ، او يتدحرج أمامها ليحميها ، أو يعقبها خلفها ليعرف الى أين مسراها ، ويكون مشعلا او شمعة لها عندما تخرج من قصره ..
ولكنه لو يفاتح زبيبة بحبه لها ، وكان يحاول أن لا تكتشف انه يرتبط بأكثر من رابطة علاقة تريحه مع واحدة من الشعب ، لأنه في الغالب محصور بين جدران القصور وتقييداتها ..
وبعد ان كان الملك لا يسأل عن أي شيء وحال تفعله مع زوجها ،ولا يغار عليها منه ، باعتباره زوجها ، صار يغار عليها حتى من الهواء والماء ..وربما من لقمة الطعام وهي في فمها ، ــ نعم ــ أقول ــ من حق الملك أن يغار على فم زبيبة ، ومن حق الزوج أن يغار على فم زوجته .. أليس الفم مما ينبغي أن يغار المرء عليه ؟ أليس هو من خصوصيات المرأة التي تجذب الرجل أو تنفره منها ؟ مما يقتضي أن تراعي المرأة الذكية ذلك فيها ؟ فتستخدمه كعنصر قوة على الرجل ، لينجذب إليها ، ولا يفلت ..
وتداري ما فيه من عيب ، لئلا يهرب عنها بعد أن يقترب منها !؟
ألا يقبٌل كثر من الرجال المرأة أكثر بكثير من أي تفاصيل أخرى فيها ؟.. ألا يكفي بعضهم ، تعبيرا منه عن الزهد في الجنس ، أو ليثبت لحبيبته في أي مرحلة من مراحل العلاقة والعشرة انه يلتصق بها ، ليس حبا بالجنس ، وإنما حبا بها حسب ، بالقبلة والتقبيل ، ويقول إن هذا هو الأساس ، سواء حضر الجنس أو غاب عنهما !؟ أو هكذا يدعي من يدعي .. وإذا كان الفم على هذا الوصف ، ألا يحق للرجل ، بل أليس من دواعي واجباته تجاه من يحب ، أن يغار على فمها .. ضحكتها .. حركة شفتيها ؟ ثم بعد هذا ، ألا يصير مفهوما أكثر لماذا كانت أمهاتنا وجداتنا يضعن ( الفوطة ) على أفواههن أمام الغريب ولا يأكلن إلا أمام ذي محرم ؟ ومع هذا مغزى الآية الكريمة التي تدعو النساء ليضربن بخمرهن على جيوبهن، ومن ذلك الفم ....!!!...
يتبع الجزء الثانى
في ارض العراق ، مثلما هي غنية بقصص الفروسية والعمل والبناء ، والإيمان في السهل والجبل ، وفي الهور حيث ينعكس في ليلة مقمرة على سطح مائه الجدي وزحل، تجد الغرائب إلى جانبها ، والنقائض إلى جانب ما يعجبك منها ..
ولــكـن في العراق ، لا يفرخ الدجل ، ولا يوجد فيه هزال ، وليس فيه صفة الهزل .. فيه : كان يا ماكان .. هكذا روت عجوز من قريتنا ، اسكنها أهلي وكنت أناديها : جدتي ، وكانت حكيمة ذكية ، يعود أهل القرية إليها ، نساء ورجالا، لينهلوا منها النصيحة والحكمة ، بل وكانت طبيبة القرية ايضا ، يحبها الصبيان والصبايا كثيرا ، ويستمعون إلى حكمها وحكاياتها إلى جانب الكبار ، رجالا ونساء ..، حكت لنا يوما وقالت :
كان في قديم الزمان ، ملك عظيم المكانة والشأن .. يبسط نفوذه ،وانطوت له الأجنحة احتراما ، وسلاما ومحبة ، وأمانا ، أو هيبة وخوفا من الخائفين من فعل أنفسهم .. كان ذلك قبل أن يريد الله عن طريق رسله وأنبيائه ، وضع حدود واضحة لما يعد حلالا أو حراما ، أو قبل أن يكون الناس مستقرين على قاعدته ، طائعين لمعانيها وشرائعها ، أو طقوسها ، بنفس الدقة والوضوح اللذين صاروا عليهما في ما بعد .. سلم ناسه له ، بين طائع أو مجبر ، بعد أن صار ملك زمانه : ملك الجهات الأربع ،وهكذا كان من يريد ان تنحني له الرقاب طائعة إلى مدى وعمق أعمق من عمق المكان الذي يحل فيه عرشه ويؤثر فيه ، من ملوك لاينتسبون إليه ، ويحكمون خارج مقر حكمه ، في أعماق العالم القديم ، والى المدى الذي صار من يخشون سطوته ، ان لم يقتنعوا بحكمهم شعبهم ، باسمه ، يحكمون ويعلون ويطاعون ..
انقطعت الجدة عن الكلام لمتابعة شأن من شؤونها في تلك الليلة الشتائية ، ونحن نتحلق قرب نار لا تكاد تدفئ إلا من كان لصيقا بها ، ولم اعرف مغزى هذه الرواية العجيبة ، لكنني اعرف هذه المرأة جيدا ، واعرف إنها كانت حكيمة بما يكفي ، قياسا بأهل زمانها ، ضمن حدود المكان الذي كانت تعيش فيه مع أهل قريتنا الغافية على نهر الزاب ،على مقربة من جبل مكحول ، إلى الشمال الشرقي منه وعلى الضفة الشرقية من نهر دجلة قبالة مدينة الشرقاط ،حيث آثار مدينة آشور التي يعود تأسيسها إلى الألف الثالث قبل الميلاد ، في العصر الآشوري الأول ..
اعرف ان الجدة هذه كانت تتعمد ان تلتقط لنا حكاية ، ربما بعضها مبتكر ، وبعضها من قصص التراث الشعبي ، مع ما يمكن ان تدخله عليها ، أو تحذفه منها ، بما يجعلها ملائمة للمغزى الذي تريد ان نلتقطه منها ،ويؤثر فينا بما يحقق هدفها ..، وكانت جدتي مثلما هو شان كل الجدات المربيات لأجيال من الشباب والشابات ، من أبناء بناتهن أو أبناء أولادهن ، تحرص على أن تظهر مع تركيز خاص لما تريد ان نتمتع ونتخلى عنه ، أو نتمسك ونعمل به ، من خلال قصة أو رواية، وكل حسب ظرفه وهدفه ..
هكذا كانت الجدات ، بل العمات والخالات ايضا ، ممن تكون أعمارهن في الأغلب ، اكبر من أعمار الأمهات ، يعتنين بهذا النوع من القصص ،وكن بما يروينه من روايات أو أمثال وحكم كأنهن تلفزيون بيت ، بل وليت تلفزيونات هذا العصر تصل في جوانبها التربوية إلى عشر معشار ما كنا نتلقى من دروس على أيديهن ..، وكان بعض الرجال يروي في المضايف والدواوين ، أو في البيوت ، بين الأهل ، ما هو شبيه بهذا ، بما يربي معاني الفروسية والتقاليد الطبية بين الفتية والشباب ..
واصلت الحكيمة حكايتها :
ضاق صدر الملك من وحدته في قصره ، فخرج طالبا الفلاة خارج المدينة ، ولاح له قصر منيف من بعيد .. وبعد ان سار هو وموكبه باتجاهه بما يقرب من نصف ساعة في حسابات الزمن لهذا العصر ، بين ان يهذبوا على الخيول او يغيروا ، او يسيروا بصورة اعتيادية ، اقترب الملك وموكبه من القصر ، ورآه كأنه قصره الذي خرج منه لتوه ، ولكنه اصغر حجما منه بقليل .. وعندما سال عن عائدية القصر ، قيل له انه لتاجر كبير ، صديق للكثرة الكاثرة من الأمراء ، ويقيم فيه الدعوات الفخمة .. أما المزرعة وما فيها ، فقد أهداها له ، أو لوالده ، واحد من الملوك السابقين .
هنا حاولت الراوية الحكيمة ان تمزح معنا : ألا ينبغي ان يكون أصدقاء الأمراء ، ومن يتقبلون الدعوات ليكونوا على موائدهم ، من العناوين الكبيرة :تجارا كبارا ، إقطاعيين كبارا .. أصحاب نفوذ كبارا ، متعهدي دور العبادة .. حتى سماسرة كبارا ؟.. ثم أليس الملوك كرماء من أموال الشعب لغير الشعب ؟.. أليس كرمهم للأغنياء ، يا أبنائي ، أم تعتقدون إنكم تصيبون شيئا منه !؟..
هكذا ، أكرم احد الملوك صاحب القصر المنيف حسقيل بما أكرمه ، وبقيتم انتم على هذا الحال مع جدتكم ، في هذا ( الخربوش ) الذي بالكاد يصعد لريح الشتاء ، اما المطر ، فيتخلل من سقفه كلما ابتل بنقاط قليلة منه !!..
قالت ذلك وهي تضحك ، بل وتقهقه أحيانا ، كنا لشقاوتنا نضحك عندما تظهر أسنانها متفرقة ، حيث الزمن هدم جزءا منها هنا ، وجزءا آخر هناك ، وبالكاد بقي نصف الأسنان بين فكيها ، بعد ان برى الزمن ما براه منها ، حتى أبقى جذورها وما فوقها بقليل ...
وعندما كانت تتحدث عن الملك والملك والملكية ، كانت تلوك الكلمات ، وتحبس كل واحدة منها بين شفتيها لحظة من الزمن ، حتى تتحول إلى أحرف ، كأنها بهذا تجبر خاطرها وما فيها من قصور في الجاه والملكية والقدرة ...
وعندما تتذكر كيف زفوها لابن عمها ، لقاء صداق لم يتجاوز عشر نعاج، قبضها والدها ، دون ان يعطيها واحدة منها ، او يشتري لها حتى ولو ثوبا( دشداشة ) جديدا واحدا .. تتجرع الحسرات ، برغم ان ذلك قد حصل منذ ما يقرب من الأربعين عاما في الأقل ..
نبهنا الراوية لكي لا تتحول عن حكاية او قصة الملك الى قصتها هي ، فعادت لتقول :
- استغرب الملك مما سمعه عن حسقيل وقصره ، ولكنه تابع المسير باتجاه كوخ صغير كان الأقرب الى السياج الخارجي لقصر حسقيل ، فتبعه حسقيل على ظهر جواد ، بعد ان عرف ان الملك جاء الى قصره ، لكنه لم يدخله .. وكان الملك قد أمر الحرس بأن يمنعوه من ان يدنو منه ، مذ ان اقترب من الكوخ ، الذي خرجت منه فتاة جميله في مقتبل العمر ، اسمها زبيبة ..
رحبت زبيبة بالملك ، وناشدته بمنطق عالي المستوى ، وبأدب جم ، ان يترجل ، لتقوم بخدمة الضيافة ..
وكان شيخ طاعن في السن يقف الى جانب زبيبة ، استطاع ان يقدر انه من عائلتها ..
ترجل الملك .....
وعندما التمست زبيبة من الملك ان يدخل الكوخ ، دخله فعلا ، وأجلسته على كرسي صنع من سعف النخيل .. ولكن الملك لاحظ ان الكوخ نظيف من الداخل ، وان أشياءه وضعت وفق ترتيب وتناسق خاصين ..
أليست تعقيدات القصور ، وأشياؤها ، وجدرانها السميكة مما تعافه نفس من لا يكون فقير معنى ، يتشبث بالمظاهر غير الضرورية ، إلى الحد الذي تميت نفسه ، وحتى ذوقه ؟ الا تنمي هذه الصلة المباشرة بالطبيعة ، كما هي ، الذوق ، قدرة اختيار الألوان المناسبة ، مثلما ينمي الهواء الطلق الصحة والبناء النفسي للانسان ؟..
أجابت زبيبة عن كل تساؤلات الملك حول حياتهم ، وأشيائهم ، وظروفهم ، بما بهر الملك ،وخاصة عندما كانت تتوسع في الإجابة بطريقة أبقت الملك بحاجة ليستمع المزيد .. وكانت كلما خاطبت الملك ، او أجابت عن شيء ، تردفه بمستوى عال من اللياقة والأدب ، الى جانب البساطة وليس التعقيد ، وبما يريح النفس ، ويغني المعرفة ..
أعجب الملك بزبيبة ..
أليست بساطة زبيبة ، وذكاؤها الفطري المختبر بتجربته، وعدم تصنعها في السلوك ، هو ما يحتاج إليه القابع في قصره ، والذي لا يرى ، ولا يسمع الا ما هو جزء محسوب مسبقا في سياق ممل وثقيل !؟..
نعود الى ما قالته لنا العجوز عن ذلك الملك الذي تدور حول محوره روايتنا هذه :
بعد ان اكثر الترداد على بيتها ، وبعد ان صارت زبيبة تزوره ومن وفق ما سيأتي ذكره لاحقا ، انتهى الملك الى ان احب زبيبة حبا جما ، لم يرتق اليه حب أي امرأة أحبها تحت أي عنوان ، ومن ذلك زوجاته وحبيباته .. كانت إذا مشت على الأرض يفلت قلبه خارج قفص صدره ليباريها ، او يتدحرج أمامها ليحميها ، أو يعقبها خلفها ليعرف الى أين مسراها ، ويكون مشعلا او شمعة لها عندما تخرج من قصره ..
ولكنه لو يفاتح زبيبة بحبه لها ، وكان يحاول أن لا تكتشف انه يرتبط بأكثر من رابطة علاقة تريحه مع واحدة من الشعب ، لأنه في الغالب محصور بين جدران القصور وتقييداتها ..
وبعد ان كان الملك لا يسأل عن أي شيء وحال تفعله مع زوجها ،ولا يغار عليها منه ، باعتباره زوجها ، صار يغار عليها حتى من الهواء والماء ..وربما من لقمة الطعام وهي في فمها ، ــ نعم ــ أقول ــ من حق الملك أن يغار على فم زبيبة ، ومن حق الزوج أن يغار على فم زوجته .. أليس الفم مما ينبغي أن يغار المرء عليه ؟ أليس هو من خصوصيات المرأة التي تجذب الرجل أو تنفره منها ؟ مما يقتضي أن تراعي المرأة الذكية ذلك فيها ؟ فتستخدمه كعنصر قوة على الرجل ، لينجذب إليها ، ولا يفلت ..
وتداري ما فيه من عيب ، لئلا يهرب عنها بعد أن يقترب منها !؟
ألا يقبٌل كثر من الرجال المرأة أكثر بكثير من أي تفاصيل أخرى فيها ؟.. ألا يكفي بعضهم ، تعبيرا منه عن الزهد في الجنس ، أو ليثبت لحبيبته في أي مرحلة من مراحل العلاقة والعشرة انه يلتصق بها ، ليس حبا بالجنس ، وإنما حبا بها حسب ، بالقبلة والتقبيل ، ويقول إن هذا هو الأساس ، سواء حضر الجنس أو غاب عنهما !؟ أو هكذا يدعي من يدعي .. وإذا كان الفم على هذا الوصف ، ألا يحق للرجل ، بل أليس من دواعي واجباته تجاه من يحب ، أن يغار على فمها .. ضحكتها .. حركة شفتيها ؟ ثم بعد هذا ، ألا يصير مفهوما أكثر لماذا كانت أمهاتنا وجداتنا يضعن ( الفوطة ) على أفواههن أمام الغريب ولا يأكلن إلا أمام ذي محرم ؟ ومع هذا مغزى الآية الكريمة التي تدعو النساء ليضربن بخمرهن على جيوبهن، ومن ذلك الفم ....!!!...
يتبع الجزء الثانى