بهذه الكلمات ينهي جبران رسالته التي خطها من نيويورك الى صديقه ميخائيل نعيمة سنة 1922 قبل وفاته بتسع سنوات. أهي تمنيات أم تنبؤ أم توق الى الانعتاق من قيود المدينة الجائرة أم حنين للأزرق اللامتناهي للقداسة للضبابة تغمر الروح فتتندى في الذاكرة فسحات الطفولة و اليفاعة.
*أماكن الروح الأولى
طبيعة الشمال الرائعة بشري .. وادي قاديشا .. غابة الأرز .. دير مار سركيس .. كلها أماكن احتضنت طفولة جبران و عهد يفاعته و تأملاته و خلواته و فيقّت قلبه على الارتعاشات الأولى، و أسمعت روحه النغمة الأولى و الرفرفات الهامسة. ذلك السكون المهيب الذي يزنر طبيعة الحياة في “بشري” سيرسم فيما بعد خطوطاً في اللوحة الجبرانية و تلطيخات و تساوقات كثيفة عليه تفتحت بصيرته و بصره، و منه خطت الكلمة الجبرانية صدىً عميقاً للحكمة.. التأملية .. الغوص في التتابع الفكري إلى ما هنالك من الزخم و القوة و الحضور الجبراني الآثر.
* عودة جبران
مات جبران في العاشر من نيسان 1931 بعد معاناة طويلة من الألم و المرض، و جاء موته نتيجة تليف في الكبد و بداية سل في إحدى الرئتين و له من العمر ثمانية و أربعون عاماً. و في نهار الجمعة في الحادي و العشرين من آب وصلت باخرة من بوسطن إلى مرفأ بيروت تحمل رفاة جبران العائد الى وطنه لبنان. هناك استقبل استقبال الفاتحين ليستقر في بشريّ مسقط رأسه حيث رقد رقدته الأخيرة في دير مار سركيس الذي طالما أبدى جبران رغبته في شرائه ليجعل منه صومعة لفنه و مكاناً لوحدته.
*متحف جبران .. محطات عابقة بالروحانية
المتحف هو نفسه دير مار سركيس و قد مر بمراحل عديدة و تطورات هامة جعلته يأخذ عبر الأزمنة أسماء و صفات عديدة و كل مرحلة تكاد تشكل محطة تكيفت مع الظروف و الحاجات.
*المحطة الأولى : محبسة مار سركيس و القصادة الرسولية
هناك وسط مغاور النساك و في لحف الجبل المشرف على وادي قاديشا ” وادي القديسين” تقع مغارة انقطع إليها حبيس ناسك مجهول الاسم ليرسخ فيها إيمان القديس سركيس الذي كان قد وصل الى جبال لبنان منذ القرن السابع ” هذه المغارة ستصبح مدفن جبران “. إن نمو المناخ التأملي و انتشاره في تلك البقعة الساحرة دفع بالقاصد الرسولي أن يشيّد في القرن الخامس عشر شرق المحبسة بناءً صغيراً من طابقين ليجعله داراً للقصادة الرسولية.
*المحطة الثانية :من دار للقنصلية الفرنسية إلى دير للآباء الكر مليين
في أواسط القرن السادس عشر تحول البناء الصغير الى مركز للقنصل الفرنسي خلال الصيف و أضيفت إليه دار مؤلفة من أربع غرف و حين وصل الرهبان الكرمليين إلى بشريّ سنة 1633 استطاعوا تنظيم التبشير فيها و اشتغلوا بجد في حقليّ الصيدلة و التعليم فكافأهم أعيان بشريّ بأن جعلوا المحبسة و البناء القائم و غابة السنديان وقفاً عليهم و في سنة 1701 هدم الرهبان البناء القديم و شيدوا مكانه شرقي المحبسة الدير القائم الآن.
*المحطة الثالثة : محبسة مار سركيس
استأثرت هذه البقعة بتاريخها بروحانيتها بالمناخ العابق بالشاعرية و الباعث على التأمل الى جانب تعابير الطبيعة المذهلة و المفصحة عن أبعاد و أسرار بوعي جبران في طفولته مذ تعافت ميوله لتحمله الى الطبيعة و معه سافرت فظلت في فكره وفنه وخياله إطارا لعالمه ومصدراً مولداً و أتيح له أن يجدد و يعمق علاقته الروحية و الصوفية بها حين عاد ما بين عامي 1898-1902 للدراسة في لبنان و هكذا بقيت حنيناً صارخاً في كيانه يتوق شوقاً للرجوع إليها و قد أفصح عن حنينه هذا لأصدقائه و أخته مريانا التي اشترت من ماله البقعة المشتملة على الدير و المحبسة و الغابة، و في صخر المحبسة حفر المدفن ليضم رفاة جبران و لا يزال.
*المحطة الرابعة : دير مار سركيس متحف جبران
في وصيته الأخيرة أهدى جبران لوحاته و رسومه و أشياؤه الثمينة الى( ماري هاسكل) صديقته التي رعته واحتضنته وقدمت له العون المعنوي والمادي والأدبي تاركاً لها الخيار فيما تراه مناسباً بشان ذلك فترد ماري على هذا العطاء الجبراني العظيم بعطاء فاق عليه لتحقق رغبته التي عرفتها في حنينه الى وطنه و ترسل كل هذه اللوحات الفنية و الأثاث و الأشياء الثمينة الى بلدته بشري 1933 لتعرض اللوحات الفنية في أماكن عديدة قبل أن تستقر في متحف يليق بهذا الإرث الفريد. كانت لجنة جبران قد اهتدت عام 1971 الى رغبة جبران المدونة في رسائل موجودة في محفوظاته بأن يجعل هذا الدير صومعة تعرض فيها لوحاته لو أعطيّ له أن يشتريه و يقيم فيه، و قد تم الشراء يوم رافقت مريانا أخت جبران جثمانه الى بشري و هذه بدورها قدمت كل البقعة المشتملة على الدير و المغارة و الغابة الى لجنة جبران لتحقيق رغبة أخيها.
وجوه جبرانية
و في العام 1975 تحول الدير الى متحف ليضم (440) لوحة لجبران و مجموعة لا بأس بها من الأوراق و المخطوطات و الدفاتر التي دونها جبران بخط يده. إضافة إلى أثاث محترفه و ممتلكاته الخاصة فهنالك يتسنى للمرء أن يرى مكتبة جبران و حقيبته و سريره و مرسمه و طاولته و كرسيه و أشياؤه و لا يزال القبر في المغارة ضاماً تابوت جبران و بقاياه.
أضافت لجنة جبران الى البناء القديم ( الدير ) قسماً يصل الطابق السفلي بالعلوي و جهزت كل غرفة و ممر و دهليز بأجهزة الكترونية للإنارة و الإنذار و الرطوبة و الحرارة و الموسيقا جاعلة لكل غرفة جهازاً يساعد الزائر على اختيار اللغة التي تلائمه ليصغي وسط اللوحة و السكون العميق كمهابة الصخور و المغاور و خرير الماء الى العناوين التي تلمسه بداية الطريق الى فكر جبران و فنه و روحه.
و قبل أن يغادر الزائر سيجد عبارة محفورة بالنار على خشب الأرز كان قد سجلها جبران بقلمه على أحد دفاتره تقول : كلمة أريد أن تكتب على قبري :” أنا حي مثلك و الآن واقف الى جانبك فأغمض عينيك و التفت ترني أمامك ” جبران.
عدل سابقا من قبل ninar في الخميس أغسطس 19, 2010 5:11 pm عدل 2 مرات (السبب : اللون مع املاء)