أنطون سعادة *
{1904 __ 1949 }
_ 1 _
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
كتبت مختصرات ونشرتها على حلقات في جريدة الصحافة حول رجل عرفه المشرق ( بلاد الشام ) جيدا وله من التأثير الكبير على مسيرة الفكر العربي السياسي والفلسفي وكذلك على الحركة الأدبية عموما والشعر بشكل خاص متمثلا بمجلة شعر والتي كان روادها من تلاميذه وأعضاء في حركته ( الحزب السوري القومي الاجتماعي )
( وهذا ما سأركّز عليه وما يعنيني وهو حركة الحداثة الشعرية ) .
لنعرِفَ من هو أنطون سعادة لا بد من تعريف سريع لوالده
الدكتور ( الطبيب ) خليل سعادة أحد أهم رموز رواد النهضة في الشام في القرن التاسع عشر ، فهو أديب وصحافي ومترجم وله تأثير في تكوين النفسية الوطنية الجديدة وقد ترك أثرا فاعلا في المهاجرين السوريين في بلاد القارة الأميركانية إن في السياسة وإن في الأدب وكانت مقالاته جريئة ( صاعقية ) حمل بها على الخمول والخيانة والتذبذب في الوطنية والخنوع والاستسلام للأجنبي ، ألّف قاموسا في اللغة سمّي باسمه كما ترجم ما يسمّى إنجيل برنابا وكان من بين أهم ممن كتبوا الرواية العربية المبكّرة ففي عام 1893 نشرت روايته بالإنجليزية
( الأمير السوري وتحتوي على أهم العادات والتقاليد في جبل لبنان وجبل حوران وهما جبلان من أهم الجبال في سوريا الطبيعية )
( وللتنويه أقول حين يرد ذكر سوريا في هذه الحلقات تعني سوريا الطبيعية لا سوريا القطر الحالي تمشيّا مع فكر أنطون سعادة وأدبيات الحركة السورية القومية الاجتماعية ) .
نشأ أنطون سعادة في مدرسة أبيه إلى جانب ما نال من التعليم الابتدائي في لبنان ومن ثم التحق بوالده في المغترب في البرازيل وليس من دليل على أن أنطون سعادة تحصل على البكالوريا ولكن دراسته تمّت على التحصيل الشخصي على يد والده وقد أظهر الشاب نبوغا غير عادي حيث أتقن عدة لغات إلى جانب العربية كالبرتغالية بحكم وجوده في البرازيل والإسبانية حيث أقام في مغتربه القسري في الأرجنتين هذا إلى جانب الفرنسية والإيطالية والإنجليزية
والألمانية ، وكون والده من مفكرين نهضويين وسياسيين في عصره فقد تأثر أنطون سعادة كما أسلفت القول بأفكار والده في المقام الأول ، وعمل مع والده في الجريدة التي كان يصدرها في البرازيل ولم يتجاوز عمره الخامسة عشر والمقالات التي كان يكتبها الشاب اليافع تنبئ بنبوغه منذ سنيه المبكرة .
وعندما اختمرت في عقله أفكاره الوطنية اختار العودة إلى الوطن وكان ذلك أوائل العشرينات من القرن الماضي وعمل في دمشق مدرسا في ثانوياتها لأقل من سنتين ، بعدها عاد إلى بيروت ليعمل في الجامعة الأميركية موظفا صغيرا يقوم بتقديم الشاي للمدرسين ليتسنى له نشر أفكاره من خلال الحوارات التي كان يجريها معهم ، حتى حالفه ظرف موت أحد أساتذة اللغة الألمانية فعينوه
( استثناء ) كمدرّس للغة الألمانية وهذا ما كان يطمح إليه بعد أن يئس من مناقشة المدرسين ، فتسنى له أن يحتك مباشرة بالطلبة ولم يكن يكبرهم كثيرا
وهنالك أقنع بأفكاره الخلية الأولى ( خمسة من طلبة الجامعة ) وتم تأسيس ما سمّي بـ الحركة السورية القومية . . . . وذلك في عام 1932 وعمر أنطون سعادة لم يتجاوز الثامنة والعشرين .
وسنأتي كما أسلفنا على أهم أفكاره مبادئ ( الحركة السورية القومية الاجتماعية) مارين بفلسفته ( المدرحيّة ) والنظام الجديد الذي أنشأه
ومركزا على شخصية الرجل ( كزعيم ) وما إلى ذلك في
حياته القصيرة الغنية . .
* ((( هو أنطون بن خليل سعادة ، ولد في الأول من آذار عام 1904 في الشوير قضاء المتن (من محافظة جبل لبنان) من أبوين شويريين لبنانيين. والده الدكتور خليل سعادة كان طبيباً وعالماً وأديباً، ومن أبرز القادة الوطنيين في المغترب اللبناني في البرازيل، أسس عدة جمعيات وأحزاب مهجرية وطنية وقومية، كما أنشأ صحيفتي (المجلة) و(الجريدة) في سان باولو في البرازيل.
تلقى أنطون سعادة سنة 1909 المبادئ الأولية للقراءة والكتابة في مدرسة الشوير على يد المعلم حنا رستم، ثم أكمل دراسته الثانوية في معهد الفرير في القاهرة حيث كان والده قد التجأ، ثم في مدرسة برمانا في جبل لبنان.
سنة 1919، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ترك سعادة وطنه، بعد أن شهد بنفسه آثار المجاعة إبان الحرب، وغادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ثم في عام 1921، انتقل إلى البرازيل حيث أسهم مع والده الدكتور خليل في تحرير جريدة (الجريدة) ومجلة (المجلة).
لم يكمل أنطون سعادة تعليمه الجامعي، لكنه درس على نفسه حتى أصبح يتقن عدداً من اللغات من بينها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية، مما أفسح له من خلال مطالعاته بهذه اللغات الحية أن يكمل على نفسه التعمق في العلم والفكر الإنساني في عدة اختصاصات شملت التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية وعلوم الإنسان والأدب.
أسس سعادة في البرازيل جمعية سرية للعمل على تحرير الوطن من الانتداب، كما انخرط في عدة جمعيات لهذا الغرض، لكنه وجد أن النضال الفعلي إنما هو الذي ينطلق من داخل الوطن لا من المهجر. لذلك عاد إلى الوطن في تموز سنة 1930م، ومنها انتقل إلى دمشق سنة 1931 حيث اشترك في تحرير جريدة (الأيام) الدمشقية، ومن ثم عاد إلى بيروت وهو عازم على إنشاء الحزب الدستوري القومي الاجتماعي، مفضلاً الشروع في الوسط الملائم وسط الطلاب، حيث تولى تدريس اللغة الألمانية لطلاب الجامعة الأمريكية.
في 16 تشرين الثاني/1932، أسس أنطون سعادة الحزب السوري القومي الاجتماعي تحت اسم (حزب الشعب السوري) ( S.P.P) من خمسة طلاب
في الجامعة الأمريكية، ومن هذا الوسط انتشرت دعوته إلى المناطق بحيث
انتظم فيه المئات في غضون السنوات الثلاث الأولى من العمل السري.
وقد انكشف أمر الحزب عام 1935 من قبل سلطات الانتداب الفرنسي،
فاعتقل سعادة وعدد من معاونيه، وصدرت بحقهم أحكام مختلفة أقصاها
السجن لسعادة مدة ستة أشهر. )) نقلا عن القصة السورية )))
أنطون سعادة
2
اتهم أنطون سعادة وحزبه كثيرا بتهم منها ما كان بقصد الإشاعات والتشويه ومنها ما كان دون فهم لحقيقة فكره ودعوته وفي المسألتين تجن كبير على حقيقة الرجل ولأنني أكتب لقارئ قد يكون بعيدا عن تاريخ الحركة السورية القومية وعن بيئتها الاجتماعية وعن مدار تحركها الحزبي والسياسي أجدني مفضلا أن أتحدث عن أنطون سعادة الذي أسس حزبه في عام 1932 وفي ظروف سياسية أي بعد خروج الأتراك ودخول الإستعمارين البريطاني والفرنسي حيث كانت التيارات العروبية الدينية في أوجها وكذلك التيارات الإنعزالية في لبنان خاصة ، هذا إضافة للقوة الطائفية السياسية .
فمنذ ظهر أمر الحزب وانكشف تنظيمه للعلن عام 1934 تنبهت القوى السياسية ليس للمبادئ الأساسية فحسب بل لمبادئ الحزب الإصلاحية العلمانية :
المبدأ الأول _ فصل الدين عن الدولة .
المبدأ الثاني _ منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين .
المبدأ الثالث _ إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب .
المبدأ الرابع _ إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة .
وحين أسوق هذه المبادئ أسوقها لأدل على كثرة الجبهات التي فتحها أنطون سعادة في بيئته اللبنانية أولا ومن ثم في البيئة المحيطة بلبنان أي المشـــرق
( الهلال الخصيب سوريا الطبيعية والعراق ) لذلك كما ذكرت تنبهت كل القوى الانعزالية والطائفيات السياسية وتيارات العروبة الدينية لخطورة فكر الرجل وبدأت الحرب ضده بكل الوسائل وعلينا أن لا ننسى أن المنطقة كلها واقعة تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني ولعل من أكبر ميزات حركة سعادة بين حركات التحرير في العالم أنه وضع مبادئه ولم يترك تطبيقها للزمن بل طبقها بنفسه ثم على المقتنعين بمبادئه وأوجد فئة من الناس تعتنق المبادئ القومية العلمانية وتعمل بها وتعيش لأجلها وتموت أيضا ، على مر تاريخ الحركة منذ الشهيد سعيد العاص البطل في فلسطين في ثورة عام 1936 وهو من مدينة حماة إلى الشهيدة البطلة سناء محيدلي ابنة الجنوب اللبناني وكذلك في موضوع إعدام أنطون سعادة ذاته في الثامن من تموز 1949 من قبل الحكومة اللبنانية آنذاك بعد محاكمة صورية ( سنصل وفي مقالة منفردة إلى تلك المحاكمة وذلك الموت الأسطوري الذي جسده وقد صدّق القول بالفعل (( إن الحياة تعني لنا وقفة عز فقط وإن الموت طريق الحياة )) . )
وجدير أن نذكر أن الراحل أنطون سعادة كان أول سوري تجرأ على قانون قمع الجرائم أيام الانتداب الفرنسي فأقدم على تأسيس حزبه القومي الذي كان في طليعة مبادئه محاربة الاستعمار بشتى ألوانه وأشكاله .
أعود لما بدأته حول الاتهامات والشائعات والتضليل التي حورب بها سعادة وحركته ويخصني هنا أكثر ما كتب عن فينيقية الحزب وأنه دعوة فينيقية وأنه ضد العروبة لكي أعطي أدلة على بطلان تلك الادعاءات ومن فكر سعادة نفسه وذلك منذ أول تأسيسه لحركته إبان الحملة التي قامت بها بعض الصحف والعناصر والفئات بحجة عداء العروبة :
{ غاية الحركة السورية القومية الاجتماعية إيجاد نهضة قومية تكفل تحقيق مبادئها وتؤدي إلى الاستقلال والاستمرار في خدمة الأمة والسعي لإنشاء جبهة عربية }
{ سورية هي إحدى أمم العالم العربي }
{ إن الذين يعتقدون أن الحركة السورية القومية الاجتماعية تقول بتخلي سورية عن عالمها العربي وعن القضية العربية يقولون ذلك لأنهم لا يفهمون الفرق بين النهضة السورية القومية والقضية العربية عموما وقد ضلوا ضلالا بعيدا }
{ إننا لن نتنازل عن مركزنا في عالمنا العربي ولا عن رسالتنا إلى عالمنا العربي ولكننا نريد قبل كل شيء أن نكون أقوياء في أنفسنا لنتمكن من تأدية رسالتنا ، يجب على سورية أن تكون قوية بنهضتها القومية لتستطيع القيام بمهتمها الكبرى }
( إذا كان في العالم العربي عروبة حقيقية صميمة فهي عروبة الحزب السوري القومي الاجتماعي ، نحن أصحاب العروبة الواقعية الحقيقيين ونحن جبهة العالم العربي ونحن صدره ، ونحن سيفه ، ونحن ترسه ، ونحن حماة الضاد ، إننا واقعيون في الوجود نرى العالم العربي في واقعه عالم بيئات طبيعية ( البيئة المغاربية ) ( بيئة وادي النيل ) ( بيئة شبه الجزيرة العربية ) ( بيئة الهلال الخصيب سورية والعراق ) لكل بيئة خصائصها ومقوماتها ووحدة حياتها وإمكانياتها وعلى كل شعب في هذه البيئات أن يعي وجوده وحقيقته ومصالحه وأن ينهض معتمدا على نفسه ثم يعمل على التعاون مع شعوب البيئات العربية الأخرى ونؤكد على التعاون بإنشاء جبهة العالم العربي والسوق العربية المشتركة ونؤكد أيضا أننا أبناء الحياة بتطورها ومن يدري ” قد يصبح العالم كله أمة واحدة ” )
هذه موجزات اقتبستها من سعادة نفسه وفي المراحل الأولى لتأسيس الحركة حركة سعادة لكي أضع إجابات لكل سائل قد يسأل أو لديه معلومات خاطئة حول أنطون سعادة وفكره بهذا الاتجاه ، وأعتقد أن هناك من المفكرين العروبيين من أنصف سعادة فيما بعد ومن أهمهم المفكر القومي العربي الكبير ساطع الحصري أبو خلدون وذلك في كتابه [ العروبة بين دعاتها ومعارضيها ] الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام 1984 وكان الكتاب قد نشر لأول مرة عام 1951 . . .
فيقول ساطع الحصري :
( لم يظهر في العالم العربي إلى الآن (1951) حزب يضاهي الحزب السوري القومي الاجتماعي في الاهتمام بالدعاية المنظمة التي تخاطب العقل والعاطفة معا . . . )
ويقول الحصري :
( أسس سعادة حزبه لمحاربة روح الطائفية والنزعة الانعزالية اللتين لاحظهما في لبنان في الوقت الذي ما كان يُعرف بعد شيئا يُذكر عن أحوال سائر البلاد العربية ، ولذلك أخذ يدعو إلى فكرة القومية السورية منددا بالانعزالية اللبنانية الضيقة من ناحية وبالقومية العربية الشاملة من ناحية أخرى )
ويقول الحصري في نفس الكتاب :
إنه ظل معارضا لفكرة القومية العربية ومع هذا أدرك ضرورة تأسيس ” جبهة عربية ” ولا شك في أن التطور الذي حصل في آراء أنطون سعادة كان من شأنه أن يوصله _ عندما يستمر _ إلى تطور آخر ويحمله على تحويل فكرة ” الجبهة العربية ” بصورة تدريجية إلى نوع من ” الفدرالية العربية ” هذه هي الفكرة الأساسية التي تكونت في ذهني سنة 1948 بعد اجتماعي بزعيم الحزب أنطون سعادة واطلاعي على نزعاته الأصلية . . . وقلت في نفسي عندئذ : لا شك أن أنطون سعادة سيلتقي بنا في آخر الأمر عاجلا أو آجلا …… ولكن الأمور تعقدت بعد ذلك بسرعة كبيرة وانتهت أنفاس الرجل فجأة في ظروف شاذة جمعت خصائص الملهاة والمأساة ! ………. ) الحصري نفس الكتاب
ويبقى الحصري بمنطقية دراسته وعدليته مفكر كبيرا يحترم من كل أتباع أنطون سعادة . . فالمرحوم ساطع الحصري تصور أن سعادة كان سيصل به التفكير إلى مفهوم القومية العربية الذي توضح فيما بعد على أسس ومقومات علمية لا على غوغائية عاطفية ولا على مجرد شعارات دينية وهمية .
وبالطبع فإن ساطع الحصري كي لا أكون انتقائيا في انتزاع جمل بعينها فنّد كل آراء سعادة وبيّن أخطاءه فيما ذهب إليه في كتابه نشوء الأمم وفي مجمل فكره ورد عليه بما يتناسب والبحث العلمي في شتى المسائل السياسية والجغرافية والتاريخية أيضا ولم يلجأ الحصري إلى عاطفة بل ظل رجل علم وفكر يرد على الحجة بالحجة وعلى المنطق بالمنطق وعلى الرؤية بالرؤية وذلك باحترام كبير افتقده كثيرون ممن عادوا أنطون سعادة وفكره السياسي .
ولي إطلالة على فلسفة أنطون سعادة ومن ثم على الكارزما الهائلة لسعادة على أتباعه التي ذكرها المفكر الفيلسوف هشام شرابي في كتابه الجمر والرماد والتي يقول عنها المرحوم شرابي في كتابه الجمر والرماد :
( كارزما هائلة من الصعب تفسيرها ) وحصر شرابي مدى تأثيرها في شعراء الحداثة أمثال خليل حاوي وأدونيس ويوسف الخال ومحمد الماغوط وغيرهم .
أنطون سعادة
3
هنالك في الأدبيات الحزبية لمنشورات الحزب السوري القومي الاجتماعي أقوال تتردد دائما من أن انهماك أنطون سعادة في العمل الحزبي والإداري وكثيرا من انهماكات أخرى في المجال جعلت أنطون سعادة غير متفرغ للكتابة في المجالات التي كان يريد تفصيلها كل على حدة في كتاب أو كتب متخصصة في المجال بعينه كالفلسفة ( المدرحيّة ) وقد قرأت في مذكرات تلامذته نقلا عن لسان أنطون سعادة أنه صرّح لهم بأنه يعتزم أن يأخذ إجازة من العمل الحزبي لسنتين كي يتسـنى له وضع كتب في أفكـاره الفلسفية الاجتماعية الاقتصـادية وكان هذا بعد عودته من مغتربه القسري عن لبنان أي تصريحاته لرفقائه بين عامي 1949 – 1947 وقد قرأت كتابا أواخر السبعينيات للكاتب عبد الله قبرصي بعنوان عبد الله قبرصي يتذكر ( وهو أحد أهم تلاميذ سعادة ) وذكر هذه الأمنيات لا بل ذكر أن سعادة كانت تشغله كثيرا ويقول يجب أن أخصص للاقتصاد القومي وقتا وللفلسفة وقتا ، ولكن سعادة عاجلته الأحداث السياسية والمغامرة الكبرى التي أودت بحياته عام 1949 وظلت أمنياته في إطار الأمنيات ، وبعد رحيل سعادة شعر كثير من مفكري الحزب بهذا الفراغ فأخذوا يحاولون ملء النقص ولكنهم اختلفوا في الرؤية ولم يعتمد الحزب أيا من تلك الأفكار واعتبرت كلها دراسات في الاقتصاد أو في الفلسفة ولكن الاجتهادات قليلة . . ولذا بعد أن جمع تقريبا كل تراث سعادة ونشرت أخيرا في اثني عشر مجلدا تحت عنوان ( أنطون سعادة : الأعمال الكاملة ) تضم هذه المجلدات كتاباته قبل تأسيس الحزب وبعد التأسيس أي كل ما كتب من مقالات وكتب وغيرها من محاضرات وخطابات وحتى رسائل وكانت عمدة الثقافة في الحزب قد حاولت على فترات نشر الأعمال الكاملة ولكنها كانت تظل ناقصة لأن سعادة عاش حياة لا استقرار فيها ما بين البرازيل ولبنان ودمشق ( قليلا ) والأرجنتين ومن ثم لبنان وكتب في صحف عديدة في تلك البلدان وأسس صحفا هو نفسه فضلا عن الصحيفة الحزبية في بيروت التي كان يرسل لها من الأرجنتين وذلك في فترة ما بين عام 1938 و 1947 وبعد إعدام أنطون سعادة عام 1949 كما ذكرنا آنفا وملاحقة قيادات الحزب من الحكومة في لبنان حيث كان مركز الحزب في بيروت طالت تلك الملاحقات بعضا من تراث سعادة وفقد بعض من ملفات المجلة التي يصدرها الحزب وتم إثرها انتقال مركز الحزب إلى دمشق بعد الانقلاب العسكري على الرئيس السوري حسني الزعيم بسبب تسليم أنطون سعادة للحكومة اللبنانية وتم على أثرها فورا إعدام سعادة ( وسآتي على ذكرها في حينه ) …………….
أقول بعد انتقال الحزب بمن نجا من قيادته من السجن التي هربت إلى دمشق وبعد أن صارت دمشق مركزه ( ما بين 1950 وعام 1955 ) بدأ بعض المهتمين بجمع آثار سعادة ولكن لم يكتمل الجمع لظروف سياسية محلية وأنترنسيونية . . . وفي هذا قامت عمدة الثقافة بنشر أعمال سعادة وعلى عدة محاولات وكما قلت ظل يعتريها النقص وخاصة أن الحزب انقسم من رأس الهرم إلى القاعدة في الخمسينيات على إثر اغتيال المرحوم عدنان المالكي الضابط الكبير في الأركان السورية واتهام أعضاء من الحزب السوري القومي الاجتماعي ( حزب سعادة ) باغتياله ، وهذا الانقسام حال دون نشر كل فكر سعادة وكتاباته إذ استأثر كل شق بما لديه ومنعه عن الشق الآخر فقد صار حزب سعادة حزبين ، وكل ينشر ما لديه وعاد الحزب يتعرض للانشقاق في عام 1974 وجاءت الحرب الأهلية في لبنان ومن بعدها الاجتياح الإسرائيلي الأول عام 1978 وتتالت التوترات الدائمة ولكن أخيرا تم تأسيس مؤسسة سعادة الثقافية أواخر القرن المنصرم وقامت هذه المؤسسة بعمل جماعي من المحققين المتخصصين والباحثين وتم جمع كتابات سعادة كلها تقريبا وصدرت باثني عشر مجلدا كما سبق وقسمت هذه الكتب حسب تواريخ مراحل الكتابة ولم تعد عناوين الكتب المعروفة التي صدرت سابقا موجودة فقد ضُمّنت في دفات الأعمال الكاملة وعلى الباحث أن يعود إلى كل مجلد بحسب الفترة الزمنية هذا من جهة وأما من جهة ثانية فإن الباحث مثلا عن أفكار سعادة في الفلسفة الاجتماعية مثلا عليه أن يبحث عنها في كل الكتب ليجمع منها مقالة من مجلد أو محاضرة من مجلد آخر وهكذا . . . ومن أهم ما قرأت في هذا الجانب الفكري ( الفلسفي الاجتماعي ) عند سعادة كتاب المفكر اللبناني ناصيف نصّار بعنوان ( طريق الاستقلال الفلسفي عند العرب ) الذي خصص جزءا من كتابه لفكر سعادة . . وكتاب المفكر اللبناني عادل ضاهر (المجتمع والإنسان ، دراسة في فلسفة أنطون سعادة ) فما هي فلسفة أنطون سعادة ؟ :
المدرحيّة :
( إن المدرحيّة عند سعادة تعني تمازج المادة والروح لا بشكل ثنائي بل بشكل تداخلي هو أشبه بمبدأ الشخصانية PERONNALISME إذ أن ” مادة زائد روح ” لا تعني مدرحيّة لأن هذا إضافة ، بينما سعادة قال بكلمة تفاعل متجانس أي أن المادة والروح تتفاعلان بتجانس ، فالقضية ليست صراعاً بل تفاعلا ، فالحيوية موجودة بشكلها الإيجابي ، ومستمرة استمرار الحياة نفسها وهذه لا تظهر إلا في المتحد الاجتماعي ويعرّف المدرحية ناصيف نصار بقوله ” هي تعيين لفكرة التفاعل في موضوع علاقة الروح والمادة بالنسبة إلى الحياة الاجتماعية وليس بالنسبة إلى الحياة الاجتماعية وليس بالنسبة إلى كينونة الإنسان الميتافيزيقية )
( أما عناصر المادة عند سعادة فهي الأسس التي تقوم عليها الأمة من خلال تشكُّل ” متحدها الاجتماعي ” وهي الأرض والبيئة ، الأسس البيولوجية للجماعة، في حين أن عناصر الروحية عند سعادة فهي غايات الأمة والدولة القومية أي القيم الأخلاقية والدينية ، الغايات السامية ، ومن تفاعل عناصر المادية والروحية تنبثق عناصر المدرحية وهي البنى الاقتصادية والمؤسسات السياسية والنظرة إلى الكون والحياة . )*
ويمكن أن أقول إن كتاب أنطون سعادة ( نشوء الأمم ) الذي ألفه وهو في غمرة الصراع والنضال وعمره لم يتجاوز الرابعة والثلاثين وكان أيامها رهن الاعتقال من قبل السلطات الفرنسية ( أي وضع الكتاب وهو في السجن ) يمكن أن يكون أساسا لفكره الفلسفي الاجتماعي حيث تقوم تلك الأفكار على مفهوم الإنسان _ المجتمع ، والمدرحية كلمة منحوتة مصطلح فلسفي جديد وضعه سعادة بدخوله في ميدان مسائل الفكر الإنساني الأساسية ليقيم عليه بناء دقيق القياس والتصميم من التماسك في الفكر ومن التعيين لمسار الفكر في عملية المعرفة .
فالـ . .
_ الإنسان _ المجتمع ليس الإنسان الاجتماعي
_ الإنسان _ المجتمع ليس الفرد المتفوق ، فرد الملكوت
_ الإنسان _ المجتمع ليس البطل الأخلاقي
_ الإنسان _ المجتمع ليس الإنسان الجديد
_ الإنسان _ المجتمع ليس مصطلحا أدبيا
_ الإنسان _ المجتمع ليس مصطلحا سياسيا
_ الإنسان _ المجتمع ليس مصطلحا خطابيا
_ الإنسان _ المجتمع ليس الإنسان النيتشوي ( نسبة إلى نيتشه ) كما راق لكثير من الكتاب أن يضعوا مفهوم سعادة للـ الإنسان _ المجتمع تحت تأثر سعادة بفلسفة نيتشه .
كل هذه التشويشات تاه في وضعها وافتراضها كثير من الذين قرأوا قراءة نصِفها بالسهولة والمجانية في استعمال مصطلحات فلسفية أساسية عند سعادة .
ولعل كما أسلفت أهم وأعمق كتاب كتب عن فلسفة سعادة هو كتاب د.عادل ضاهر ( المجتمع والإنسان ) ومما أعطى عادل ضاهر المصداقية أنه ليس من أعضاء حزب سعادة ولا يقوم الكتاب بدراسة دعائية بل بشرح وتوضيح واستنباط عميق لفكر سعادة الفلسفي ( المدرحيّة ) و ( الإنسان _ المجتمع ) وهو برأيي أهم من كل ما كتب عن فكر سعادة وأؤكد حتى ممن كتبوا عن فكر سعادة من مفكري الحزب أي تلاميذه وأتباعه .
وكتاب ( نشوء الأمم ) 1937 أول كتاب في علم الاجتماع بعد مقدمة ابن خلدون في اللغة العربية تضمن أبحاثا في علم السلالة ، في التاريخ ، في الأساس المادي للاجتماع وفي البناء النفسي الذي يقوم عليه ، في وحدة الجوهر والوجود ، في القيم ، في معنى الحقيقة وفي الحق والخير والجمال ، ولعل كتاب المحاضرات العشر الذي ختم به سعادة حياته كان قد شرح فيه الغموض الذي اكتنف بعض فكره في نشوء الأمم وفي غيره في هذا الاتجاه
( إذا قصد سعادة بكلمة ( مدرحية ) اعتبار الحياة الإنسانية هي مادّية روحية وبالتالي فهو يرفض أن الحياة مادة فقط كما يرفض الطوباوية الروحية ، وكلمة مادية كما يشرحها عادل ضاهر على ضوء فهمه العام لنظرة سعادة كما يلي :
1_ العوامل الضرورية لنشوء الإنسان بتطوره البيولوجي .
2_ العوامل الضرورية لنشوء الجماعة الإنسانية واكتساب الجماعة شخصية معينة .
3_ العوامل الضرورية لتطور الإنسان الاجتماعي .
والفئة الأولى والثانية من هذه العوامل تشتملان على عوامل فيزيائية بالمعنى المحض عوامل جغرافية بيولوجية بينما الفئة الثالثة تشتمل على العوامل الاقتصادية إلى جانب اشتمالها على العوامل البيولوجية .
أما كلمة روحية فهي ( الثقافة النفسية والبناء النفسي الذي يشير إليه سعادة .)
( ويطرح عادل ضاهر سؤالا : هل لنظرة سعادة المدرحيّة في الوجود الإنساني أي مضامين انطولوجية أو ميتافيزيقية ويجيب ضاهر بالنفي ، فسعادة لم يهتم قط بالواقع الانطولوجي للإنساني أي بما إذا كان الإنسان من الزاوية الأنطولوجية كائنا مادي الجوهر أو كائنا روحي الجوهر أو كائنا ذا جوهر مادي وروحي في آن معا .)*
وفي كتابه عادل ضاهر حول الرؤية الفلسفية لسعادة وجد أن سعادة لم يطلب المعرفة من أجل المعرفة بل من أجل العمل على تحقيق نهضة شاملة في وطنه ” الهلال الخصيب ”
وأما فكرة المصطلح الثاني ” المتحد الاجتماعي ” الذي وضعه سعادة فهو يعني أن البشر ينشأون في متحدات اجتماعية فأصغر متحد مثلا الحي أو القرية ومن ثم القرى الكبيرة وثم المدن وهكذا إلى أن تشكل هذه المتحدات متحدا أكبر هو المتحد الاجتماعي الكبير ( الأمة ) التي تكونت ضمن بيئة واحدة واضحة تفاعلت تفاعلا طويلا بين عدة شعوب فيما بينها من ناحية وبين بيئتها من ناحية أخرى مما يجعل لهذه الشخصية استقلالية وراثية في المتحد الاجتماعي .
وأنطون سعادة يرى أن المتحد الاجتماعي هو مجموعة أفراد تشدهم مصالح مادية وتربطهم وحدة نفسية تتجلى في النظر والفكر والاتجاه والموقف .
ولذا ركز سعادة على النحن بدل الأنا وأعطى الأسبقية للمجتمع لا للفرد ، ورأى أن النهضة القومية لا يمكن أن تتحقق إلا بوعي جمعي لذا كانت الدعوة دعوة اجتماعية والإنسان المجتمع هو الذي يصنع التاريخ من خلال وجوده ومعرفته وإذا كان الوجود هو حصيلة بيئة فإن معرفته هي حصيلة تاريخه وهي ليست بعيدة عن الطبيعة بل خاضعة لجدلية معينة مفادها أن الطبيعة تفعل بالإنسان فيرد الإنسان الفعلَ تحرّكا في اتجاه السيطرة عليها ضمن شروطها هي في البداية وبنجاحه ” النسبي ” في السيطرة عليها واستغلالها لمصلحته يخلق أوضاعا مادية جديدة لحياته وهكذا دواليك إلى أن يصل الإنسان لتحقيق أكثر مما يمكن من حاجاته بأقل جهد ممكن . )*
وفي هذا يقول سعادة في ( نشوء الأمم ) البيئة تقدم الإمكانيات لا الحتميات .
أنطون سعادة
4
من خلال قراءتي لتراث المرحوم أنطون سعادة المجموع في كتب ، السابق منها والأخيرة ، وجدت أن بعضا من كتبه تحمل عناوين وهي بالأصل مقالات جمعها هو نفسه وأضاف عليها ومن ثم طبعت في كتاب خلال حياته ككتاب ( جنون الخلود ) في الأدب وكتابه الشهير ( الصراع الفكري في الأدب السوري ) الذي كان أساس الحركة الحداثية في الشعر ( مجلة شعر ) وكتاب ( الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية ) وهذه الكتب بالذات بدأها سعادة كمقالات كما قلت يرد فيها على كتاب نقاد أو شعراء أو مفكرين وبعد أن تنتهي سلسلة هذه المقالات التي نشرت في صحف يعود إليها ويضبطها ويسد خلل الانقطاع التسلسلي فيها حيث كان بين المقالة والأخرى أسبوعان أو أكثر وهو منشغل في الأعمال الحزبية والسياسية والإدارية والكتابة في شتى أمور راهنة أو فكرية ، ولكن قارئ الكتب هذه الآن يدرك شمولية الرجل وموسوعيته الفكرية وهمومه التي أخذت كل وقته وهو بعث نهضة شاملة لكل شؤون الحياة الاجتماعية بما فيها الأدب .
ومما لا بد من قوله أيضا إن أنطون سعادة أخذ شاعرا أو كاتبا وسيلة فيما كتب ليرد عليه ويطرح من خلال هذا رؤيته وفكره وهو يرمي إلى نموذج في الفكر أو في الأدب ليعمم على هذا النموذج أفكاره في الأدب بشكل عام كمفكر له هدف حركي قومي اجتماعي سياسي ونهضوي شمولي لا كمفكر شغل نفسه بالفكر النظري المحض .
من هنا نراه في كتابه ( الصراع الفكري في الأدب السوري ) يرد على محمد حسين هيكل وعلى طه حسين وعلى محمود عباس العقاد وعلى أمين الريحاني وعلى الشاعر خليل مطران وعلى يوسف المعلوف وكذلك على الشاعر المهجري شفيق المعلوف ليوضح البلبلة النقدية عند هؤلاء ويطرح نظرياته في الشعر والأدب عموما .
والذي أود أن أتحدث عنه هو كتابه ( الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية )
والذي كتب مقالاته أنطون سعادة ما بين 22/1/1941 و 1/5/1942 وفي غمرة محاولات الاستقلال عن فرنسا وبريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية وما في تلك الأيام من حماس وتطلع عربي للاستقلال ، فمن العرب من كان يعتقد أن ألمانيا هي المخلّص ومنهم من كان ينظر باستغلال انكسار فرنسة وبريطانية في سنوات الحرب الأولى لإشعال ثورة ضد المستعمرين وذلك بمفهوم ديني إسلامي كون المجتمع السوري ( الهلال الخصيب ) في تركيبته الطائفية يتألف من أكثرية محمدية بالعموم ومن أقلية مسيحية في العموم أيضا ولأن الطائفية دائما في المجتمع نار كامنة تحت رماد بإمكان المستعمر تأجيجها كما حصل في ستينيات القرن التاسع عشر بين الدروز والمسيحيين ( الموارنة بشكل خاص ) وبما أنه أيضا كانت تسري دائما إشاعات أن المسيحيين في سوريا ولبنان مطمئنون وهادئون مع المستعمر الفرنسي بسبب روابط عقيدة الدين وربما يصل الأمر إلى التخوين ، وبالرغم من أن أكثر كبار رجالات النهضة في القرن التاسع عشر كانوا مسيحيين ولكن هذا لم يشفع لهم والحالة الاجتماعية العامة حالة أميّة وتخلف وتعصب ديني معزز بأفكار بعض الدعاة الإسلاميين من مخلفات الخلافة العثمانية ، وقد تحمس بعض الكتاب والشعراء المسيحيين لهذه الدعاوي فمنهم من أعلن إسلامه ومنهم من دعا إلى إدانة المسيح والمسيحية والمسيحيين كأتباع وكدين متسامح . . ومن هؤلاء كان الشاعر القروي( رشيد سليم الخوري ) الذي أخذت شهرته تنتشر في بلاد العرب كشاعر مهجري اعتنق الإسلام المحمدي ( لم يثبت اعتناقه للإسلام سوى بقصائده حسب ما يذكر كتّاب المهجر ) وليس ذلك كعقيدة يرجو بها الخلاص الأخروي الفردي بل اتخذها كهجاء للمسيحية والمسيح والمسيحيين العرب في قصائد انتشرت كالنار في الهشيم في الأوساط الشعبية في بلاد المشرق وبخاصة في الكيانين الشامي ( سوريا ) واللبناني ومنها :
إذا حاولت رفع الضيمِ فاضرب
بسيف محمدٍ واهجر يسـوعا
” أحبّوا بعضكم بعضاً ” وعظنا
بها ذئباً . . . فما نجّت قطيعا
—————-
و . .
والسيف لا عيسى ولا أضرابه
خلق ” الكمال ” لهم من النقصانِ
وبما أن أنطون سعادة هو بالأصل من الطائفة الأرثوذكسية المسيحية في لبنان ورجل صاحب دعوة قومية اجتماعية تدعو إلى فصل الدين عن الدولة وتأسيس دولة علمانية تعتمد العقل شرعها الأول ، ودعوة لإلغاء الحواجز الطائفية بين شعب الأمة بكامله على مفهوم الانتماء القومي الذي من أهم مقوماته الأرض
( البيئة أي إقليم الهلال الخصيب ) والإنسان أي ( الإنسان _ المجتمع ) فكان من الطبيعي أن يحارب سعادة هذه الدعاوى وتلك الإشاعات التي تصب الزيت على نيران الفتن المتربصة بالمجتمع ككل بل أكثر من ذلك فقد كان سعادة يلاحق كل هذه الدعاوي ويفندها ويناضل بقلمه وأفكاره وبحركته الاجتماعية السياسية لا لإطفائها فحسب بل لبعث البديل الفكري بنهضة ترمي إلى توحيد المجتمع بكل أطيافه ومذاهبه لا على أساس عرقي ولا على أساس قبلي ولا أساس طائفي ولا على أساس لغوي بل على أساس وجودي مجتمعي مشدود بمغناطيسية دورة الحياة في المجتمع القائمة على التفاعل الحياتي وعلى المصالح المادية الروحية ( المدرحية ) مصالح الأفراد والشعوب التي تمازجت في هذه البيئة . . وبنظرة موحد للحياة والكون والفن ، وسعادة يقول في إحدى محاضراته : ( نحن في الحركة السورية القومية الاجتماعية بطل أن نكون محمديين أو مسيحيين نحن سوريون قوميون اجتماعيون ، فقد شهدت هذه الأرض أديانا تهبط عليها من السماء وها هي الآن تشهد دينا جديدا يرفع النفوس بزوبعة حمراء من الأرض نحو السماء بأركانها الأربعة الحرية والواجب والقوة والنظام ، نحن لنا من هذه الناحية وجهة دينية يجب أن نفهمها ) ولكنه كان يؤكّد ويصر على أن هذا لا يعني إلغاء الأديان السماوية من المجتمع ويترك الحرية حرية الإيمان الديني لكل فرد بأن يؤمن بما يشاء بما يخص خلاصه ما بعد الموت ، أما في الشأن الاجتماعي فيريد إقامة نظام قائم على الأخوة المجتمعية بانتماء قومي أساسه وعي الأمة لذاتها قائم على حياة المجتمع ووحدته الكلية ، ورغم ما في هذه الأفكار من خيال وطوباية فقد حقق ذلك سعادة داخل تنظيمه الحزبي ، الذي ضم شبانا مخلصين من كافة الطوائف الدينية ومن كافة الأعراق المختلفة في بلاد الشام وجعل منهم أنموذجا واقعيا حيا لأفكاره الطوباية .
رميت من كل هذا الشرح والتفصيل أن أوضح سبب محاربة سعادة لكل ما يدعو للطائفية أو الفئوية داخل المجتمع السوري . . وقد كتب كتابا يرد فيه على الفكر الفئوي ويحمل عنوانا ( الانعزالية أفلست ) في لبنان ومن تلك الأيام المبكرة استشرف أن انتصار الانعزالية الطائفية في لبنان ستكون كارثة على الكيان اللبناني وعلى محيطه القومي ومن يومها قال سعادة ليس لهؤلاء في النهاية سوى الارتماء في حضن الصهيونية التي تسعى لتجميع اليهود في فلسطين
( قبل أن يكون للصهيونية دولة ) وهذا ما حصل إبان الحرب الأهلية بشكل غير قابل للشك وباعتراف من قادة بعض التنظيمات القائمة على فكر عزل لبنان عن سوريته ( حسب سعادة ) وعن عروبته وما يتبع . .
إذن كان كتابه ( الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية ) كتابا برهن فيه أن الدين المسيحي والدين المحمدي دينان لهما أصل واحد هو التوحيد وما التباين الموجود بينهما سوى تباين حضاري في البيئتين اللتين نزل بهما كل دين فالمسيحية كانت في سوريا حيث لا حاجة للتشريع بسبب وجود الدولة المدنية وما سبقها من تطور حضاري على الصعيد السياسي والقانوني بينما المحمدية في وسط الجزيرة العربية ذات البيئة الصحراوية والموزعة على قبائل تتنازع على عصبيات قبلية ولا دولة مركزية لها اقتضت أن تكون تلبية لحاجة سكان تلك البيئة من التشريع وما تلاه من تعاليم تفقه المجتمع حتى مبادئ النظافة ومختلف شؤون الحياة التي لا تخفى على أحد . .
ولكن سعادة لم يكتب لتقليل شأن الإسلام المحمدي لأنه درسه من الناحية التاريخية وبحيادية عقلانية لا من ناحية رفضه كدين جاء مع الفاتحين العرب بل بالعكس دلل في كتابه على وجهات النظر ذات الأصول الواحدة بين الإنجيل والقرآن وحتى بين القرآن والتوراة ولكنه رغم دراسته المقارنة لعلم الأديان استثنى اليهودية واليهود ( وهو يعترف أنها نشأت في الهلال الخصيب ) إلا أنها بسب من جمودها ووقوفها حائلا في وجه حياة تفاعل المجتمع ( باعتبارها نفسها شعب ” يهوه إله اليهود الخاص ” المختار ) وكل الشعوب حولها أقل من البشر في معتقدهم أقول لهذا السبب اعتبر سعادة أن اليهودية السلفية (وبتنظيمها الصهيونية ) ستكون عثرة في وجه حياة وتفاعل المجتمع الحالي ووحدته الاجتماعية ويقول : عندما يقبل اليهود أن يكونوا جزءا منفعلا في هذا المجتمع ولا يسعون لإقامة ( غيتو ) أو كانتون داخله فلا مشكلة بالأساس معهم ولكنه يشكك في حصول ذلك إلا على مستوى أفراد ولذلك اعتبر الحركة الصهيونية أكبر خطر على سورية كلها وعلى العالم العربي بأسره .
وفي هذا الكتاب الخطير ( على سعادة وعلى حزبه كما حصل فيما بعد ) يقول :
( ما من سوري إلا وهو مؤمن لله رب العالمين منّا من آمن لله بالإنجيل ومنا من آمن لله بالقرآن ومنا من آمن بالله بالحكمة ( الدروز ) وليس لنا من عدو يقاتلنا في ديننا وفي معتقدنا وفي وطننا وحقنا بالوجود سوى اليهود . . فاتقّوا الله واتركوا الحزبيّات الدينية ) …………….
أنطون سعادة
5
{1904 __ 1949 }
_ 1 _
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
كتبت مختصرات ونشرتها على حلقات في جريدة الصحافة حول رجل عرفه المشرق ( بلاد الشام ) جيدا وله من التأثير الكبير على مسيرة الفكر العربي السياسي والفلسفي وكذلك على الحركة الأدبية عموما والشعر بشكل خاص متمثلا بمجلة شعر والتي كان روادها من تلاميذه وأعضاء في حركته ( الحزب السوري القومي الاجتماعي )
( وهذا ما سأركّز عليه وما يعنيني وهو حركة الحداثة الشعرية ) .
لنعرِفَ من هو أنطون سعادة لا بد من تعريف سريع لوالده
الدكتور ( الطبيب ) خليل سعادة أحد أهم رموز رواد النهضة في الشام في القرن التاسع عشر ، فهو أديب وصحافي ومترجم وله تأثير في تكوين النفسية الوطنية الجديدة وقد ترك أثرا فاعلا في المهاجرين السوريين في بلاد القارة الأميركانية إن في السياسة وإن في الأدب وكانت مقالاته جريئة ( صاعقية ) حمل بها على الخمول والخيانة والتذبذب في الوطنية والخنوع والاستسلام للأجنبي ، ألّف قاموسا في اللغة سمّي باسمه كما ترجم ما يسمّى إنجيل برنابا وكان من بين أهم ممن كتبوا الرواية العربية المبكّرة ففي عام 1893 نشرت روايته بالإنجليزية
( الأمير السوري وتحتوي على أهم العادات والتقاليد في جبل لبنان وجبل حوران وهما جبلان من أهم الجبال في سوريا الطبيعية )
( وللتنويه أقول حين يرد ذكر سوريا في هذه الحلقات تعني سوريا الطبيعية لا سوريا القطر الحالي تمشيّا مع فكر أنطون سعادة وأدبيات الحركة السورية القومية الاجتماعية ) .
نشأ أنطون سعادة في مدرسة أبيه إلى جانب ما نال من التعليم الابتدائي في لبنان ومن ثم التحق بوالده في المغترب في البرازيل وليس من دليل على أن أنطون سعادة تحصل على البكالوريا ولكن دراسته تمّت على التحصيل الشخصي على يد والده وقد أظهر الشاب نبوغا غير عادي حيث أتقن عدة لغات إلى جانب العربية كالبرتغالية بحكم وجوده في البرازيل والإسبانية حيث أقام في مغتربه القسري في الأرجنتين هذا إلى جانب الفرنسية والإيطالية والإنجليزية
والألمانية ، وكون والده من مفكرين نهضويين وسياسيين في عصره فقد تأثر أنطون سعادة كما أسلفت القول بأفكار والده في المقام الأول ، وعمل مع والده في الجريدة التي كان يصدرها في البرازيل ولم يتجاوز عمره الخامسة عشر والمقالات التي كان يكتبها الشاب اليافع تنبئ بنبوغه منذ سنيه المبكرة .
وعندما اختمرت في عقله أفكاره الوطنية اختار العودة إلى الوطن وكان ذلك أوائل العشرينات من القرن الماضي وعمل في دمشق مدرسا في ثانوياتها لأقل من سنتين ، بعدها عاد إلى بيروت ليعمل في الجامعة الأميركية موظفا صغيرا يقوم بتقديم الشاي للمدرسين ليتسنى له نشر أفكاره من خلال الحوارات التي كان يجريها معهم ، حتى حالفه ظرف موت أحد أساتذة اللغة الألمانية فعينوه
( استثناء ) كمدرّس للغة الألمانية وهذا ما كان يطمح إليه بعد أن يئس من مناقشة المدرسين ، فتسنى له أن يحتك مباشرة بالطلبة ولم يكن يكبرهم كثيرا
وهنالك أقنع بأفكاره الخلية الأولى ( خمسة من طلبة الجامعة ) وتم تأسيس ما سمّي بـ الحركة السورية القومية . . . . وذلك في عام 1932 وعمر أنطون سعادة لم يتجاوز الثامنة والعشرين .
وسنأتي كما أسلفنا على أهم أفكاره مبادئ ( الحركة السورية القومية الاجتماعية) مارين بفلسفته ( المدرحيّة ) والنظام الجديد الذي أنشأه
ومركزا على شخصية الرجل ( كزعيم ) وما إلى ذلك في
حياته القصيرة الغنية . .
* ((( هو أنطون بن خليل سعادة ، ولد في الأول من آذار عام 1904 في الشوير قضاء المتن (من محافظة جبل لبنان) من أبوين شويريين لبنانيين. والده الدكتور خليل سعادة كان طبيباً وعالماً وأديباً، ومن أبرز القادة الوطنيين في المغترب اللبناني في البرازيل، أسس عدة جمعيات وأحزاب مهجرية وطنية وقومية، كما أنشأ صحيفتي (المجلة) و(الجريدة) في سان باولو في البرازيل.
تلقى أنطون سعادة سنة 1909 المبادئ الأولية للقراءة والكتابة في مدرسة الشوير على يد المعلم حنا رستم، ثم أكمل دراسته الثانوية في معهد الفرير في القاهرة حيث كان والده قد التجأ، ثم في مدرسة برمانا في جبل لبنان.
سنة 1919، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ترك سعادة وطنه، بعد أن شهد بنفسه آثار المجاعة إبان الحرب، وغادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ثم في عام 1921، انتقل إلى البرازيل حيث أسهم مع والده الدكتور خليل في تحرير جريدة (الجريدة) ومجلة (المجلة).
لم يكمل أنطون سعادة تعليمه الجامعي، لكنه درس على نفسه حتى أصبح يتقن عدداً من اللغات من بينها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية، مما أفسح له من خلال مطالعاته بهذه اللغات الحية أن يكمل على نفسه التعمق في العلم والفكر الإنساني في عدة اختصاصات شملت التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية وعلوم الإنسان والأدب.
أسس سعادة في البرازيل جمعية سرية للعمل على تحرير الوطن من الانتداب، كما انخرط في عدة جمعيات لهذا الغرض، لكنه وجد أن النضال الفعلي إنما هو الذي ينطلق من داخل الوطن لا من المهجر. لذلك عاد إلى الوطن في تموز سنة 1930م، ومنها انتقل إلى دمشق سنة 1931 حيث اشترك في تحرير جريدة (الأيام) الدمشقية، ومن ثم عاد إلى بيروت وهو عازم على إنشاء الحزب الدستوري القومي الاجتماعي، مفضلاً الشروع في الوسط الملائم وسط الطلاب، حيث تولى تدريس اللغة الألمانية لطلاب الجامعة الأمريكية.
في 16 تشرين الثاني/1932، أسس أنطون سعادة الحزب السوري القومي الاجتماعي تحت اسم (حزب الشعب السوري) ( S.P.P) من خمسة طلاب
في الجامعة الأمريكية، ومن هذا الوسط انتشرت دعوته إلى المناطق بحيث
انتظم فيه المئات في غضون السنوات الثلاث الأولى من العمل السري.
وقد انكشف أمر الحزب عام 1935 من قبل سلطات الانتداب الفرنسي،
فاعتقل سعادة وعدد من معاونيه، وصدرت بحقهم أحكام مختلفة أقصاها
السجن لسعادة مدة ستة أشهر. )) نقلا عن القصة السورية )))
أنطون سعادة
2
اتهم أنطون سعادة وحزبه كثيرا بتهم منها ما كان بقصد الإشاعات والتشويه ومنها ما كان دون فهم لحقيقة فكره ودعوته وفي المسألتين تجن كبير على حقيقة الرجل ولأنني أكتب لقارئ قد يكون بعيدا عن تاريخ الحركة السورية القومية وعن بيئتها الاجتماعية وعن مدار تحركها الحزبي والسياسي أجدني مفضلا أن أتحدث عن أنطون سعادة الذي أسس حزبه في عام 1932 وفي ظروف سياسية أي بعد خروج الأتراك ودخول الإستعمارين البريطاني والفرنسي حيث كانت التيارات العروبية الدينية في أوجها وكذلك التيارات الإنعزالية في لبنان خاصة ، هذا إضافة للقوة الطائفية السياسية .
فمنذ ظهر أمر الحزب وانكشف تنظيمه للعلن عام 1934 تنبهت القوى السياسية ليس للمبادئ الأساسية فحسب بل لمبادئ الحزب الإصلاحية العلمانية :
المبدأ الأول _ فصل الدين عن الدولة .
المبدأ الثاني _ منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين .
المبدأ الثالث _ إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب .
المبدأ الرابع _ إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة .
وحين أسوق هذه المبادئ أسوقها لأدل على كثرة الجبهات التي فتحها أنطون سعادة في بيئته اللبنانية أولا ومن ثم في البيئة المحيطة بلبنان أي المشـــرق
( الهلال الخصيب سوريا الطبيعية والعراق ) لذلك كما ذكرت تنبهت كل القوى الانعزالية والطائفيات السياسية وتيارات العروبة الدينية لخطورة فكر الرجل وبدأت الحرب ضده بكل الوسائل وعلينا أن لا ننسى أن المنطقة كلها واقعة تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني ولعل من أكبر ميزات حركة سعادة بين حركات التحرير في العالم أنه وضع مبادئه ولم يترك تطبيقها للزمن بل طبقها بنفسه ثم على المقتنعين بمبادئه وأوجد فئة من الناس تعتنق المبادئ القومية العلمانية وتعمل بها وتعيش لأجلها وتموت أيضا ، على مر تاريخ الحركة منذ الشهيد سعيد العاص البطل في فلسطين في ثورة عام 1936 وهو من مدينة حماة إلى الشهيدة البطلة سناء محيدلي ابنة الجنوب اللبناني وكذلك في موضوع إعدام أنطون سعادة ذاته في الثامن من تموز 1949 من قبل الحكومة اللبنانية آنذاك بعد محاكمة صورية ( سنصل وفي مقالة منفردة إلى تلك المحاكمة وذلك الموت الأسطوري الذي جسده وقد صدّق القول بالفعل (( إن الحياة تعني لنا وقفة عز فقط وإن الموت طريق الحياة )) . )
وجدير أن نذكر أن الراحل أنطون سعادة كان أول سوري تجرأ على قانون قمع الجرائم أيام الانتداب الفرنسي فأقدم على تأسيس حزبه القومي الذي كان في طليعة مبادئه محاربة الاستعمار بشتى ألوانه وأشكاله .
أعود لما بدأته حول الاتهامات والشائعات والتضليل التي حورب بها سعادة وحركته ويخصني هنا أكثر ما كتب عن فينيقية الحزب وأنه دعوة فينيقية وأنه ضد العروبة لكي أعطي أدلة على بطلان تلك الادعاءات ومن فكر سعادة نفسه وذلك منذ أول تأسيسه لحركته إبان الحملة التي قامت بها بعض الصحف والعناصر والفئات بحجة عداء العروبة :
{ غاية الحركة السورية القومية الاجتماعية إيجاد نهضة قومية تكفل تحقيق مبادئها وتؤدي إلى الاستقلال والاستمرار في خدمة الأمة والسعي لإنشاء جبهة عربية }
{ سورية هي إحدى أمم العالم العربي }
{ إن الذين يعتقدون أن الحركة السورية القومية الاجتماعية تقول بتخلي سورية عن عالمها العربي وعن القضية العربية يقولون ذلك لأنهم لا يفهمون الفرق بين النهضة السورية القومية والقضية العربية عموما وقد ضلوا ضلالا بعيدا }
{ إننا لن نتنازل عن مركزنا في عالمنا العربي ولا عن رسالتنا إلى عالمنا العربي ولكننا نريد قبل كل شيء أن نكون أقوياء في أنفسنا لنتمكن من تأدية رسالتنا ، يجب على سورية أن تكون قوية بنهضتها القومية لتستطيع القيام بمهتمها الكبرى }
( إذا كان في العالم العربي عروبة حقيقية صميمة فهي عروبة الحزب السوري القومي الاجتماعي ، نحن أصحاب العروبة الواقعية الحقيقيين ونحن جبهة العالم العربي ونحن صدره ، ونحن سيفه ، ونحن ترسه ، ونحن حماة الضاد ، إننا واقعيون في الوجود نرى العالم العربي في واقعه عالم بيئات طبيعية ( البيئة المغاربية ) ( بيئة وادي النيل ) ( بيئة شبه الجزيرة العربية ) ( بيئة الهلال الخصيب سورية والعراق ) لكل بيئة خصائصها ومقوماتها ووحدة حياتها وإمكانياتها وعلى كل شعب في هذه البيئات أن يعي وجوده وحقيقته ومصالحه وأن ينهض معتمدا على نفسه ثم يعمل على التعاون مع شعوب البيئات العربية الأخرى ونؤكد على التعاون بإنشاء جبهة العالم العربي والسوق العربية المشتركة ونؤكد أيضا أننا أبناء الحياة بتطورها ومن يدري ” قد يصبح العالم كله أمة واحدة ” )
هذه موجزات اقتبستها من سعادة نفسه وفي المراحل الأولى لتأسيس الحركة حركة سعادة لكي أضع إجابات لكل سائل قد يسأل أو لديه معلومات خاطئة حول أنطون سعادة وفكره بهذا الاتجاه ، وأعتقد أن هناك من المفكرين العروبيين من أنصف سعادة فيما بعد ومن أهمهم المفكر القومي العربي الكبير ساطع الحصري أبو خلدون وذلك في كتابه [ العروبة بين دعاتها ومعارضيها ] الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام 1984 وكان الكتاب قد نشر لأول مرة عام 1951 . . .
فيقول ساطع الحصري :
( لم يظهر في العالم العربي إلى الآن (1951) حزب يضاهي الحزب السوري القومي الاجتماعي في الاهتمام بالدعاية المنظمة التي تخاطب العقل والعاطفة معا . . . )
ويقول الحصري :
( أسس سعادة حزبه لمحاربة روح الطائفية والنزعة الانعزالية اللتين لاحظهما في لبنان في الوقت الذي ما كان يُعرف بعد شيئا يُذكر عن أحوال سائر البلاد العربية ، ولذلك أخذ يدعو إلى فكرة القومية السورية منددا بالانعزالية اللبنانية الضيقة من ناحية وبالقومية العربية الشاملة من ناحية أخرى )
ويقول الحصري في نفس الكتاب :
إنه ظل معارضا لفكرة القومية العربية ومع هذا أدرك ضرورة تأسيس ” جبهة عربية ” ولا شك في أن التطور الذي حصل في آراء أنطون سعادة كان من شأنه أن يوصله _ عندما يستمر _ إلى تطور آخر ويحمله على تحويل فكرة ” الجبهة العربية ” بصورة تدريجية إلى نوع من ” الفدرالية العربية ” هذه هي الفكرة الأساسية التي تكونت في ذهني سنة 1948 بعد اجتماعي بزعيم الحزب أنطون سعادة واطلاعي على نزعاته الأصلية . . . وقلت في نفسي عندئذ : لا شك أن أنطون سعادة سيلتقي بنا في آخر الأمر عاجلا أو آجلا …… ولكن الأمور تعقدت بعد ذلك بسرعة كبيرة وانتهت أنفاس الرجل فجأة في ظروف شاذة جمعت خصائص الملهاة والمأساة ! ………. ) الحصري نفس الكتاب
ويبقى الحصري بمنطقية دراسته وعدليته مفكر كبيرا يحترم من كل أتباع أنطون سعادة . . فالمرحوم ساطع الحصري تصور أن سعادة كان سيصل به التفكير إلى مفهوم القومية العربية الذي توضح فيما بعد على أسس ومقومات علمية لا على غوغائية عاطفية ولا على مجرد شعارات دينية وهمية .
وبالطبع فإن ساطع الحصري كي لا أكون انتقائيا في انتزاع جمل بعينها فنّد كل آراء سعادة وبيّن أخطاءه فيما ذهب إليه في كتابه نشوء الأمم وفي مجمل فكره ورد عليه بما يتناسب والبحث العلمي في شتى المسائل السياسية والجغرافية والتاريخية أيضا ولم يلجأ الحصري إلى عاطفة بل ظل رجل علم وفكر يرد على الحجة بالحجة وعلى المنطق بالمنطق وعلى الرؤية بالرؤية وذلك باحترام كبير افتقده كثيرون ممن عادوا أنطون سعادة وفكره السياسي .
ولي إطلالة على فلسفة أنطون سعادة ومن ثم على الكارزما الهائلة لسعادة على أتباعه التي ذكرها المفكر الفيلسوف هشام شرابي في كتابه الجمر والرماد والتي يقول عنها المرحوم شرابي في كتابه الجمر والرماد :
( كارزما هائلة من الصعب تفسيرها ) وحصر شرابي مدى تأثيرها في شعراء الحداثة أمثال خليل حاوي وأدونيس ويوسف الخال ومحمد الماغوط وغيرهم .
أنطون سعادة
3
هنالك في الأدبيات الحزبية لمنشورات الحزب السوري القومي الاجتماعي أقوال تتردد دائما من أن انهماك أنطون سعادة في العمل الحزبي والإداري وكثيرا من انهماكات أخرى في المجال جعلت أنطون سعادة غير متفرغ للكتابة في المجالات التي كان يريد تفصيلها كل على حدة في كتاب أو كتب متخصصة في المجال بعينه كالفلسفة ( المدرحيّة ) وقد قرأت في مذكرات تلامذته نقلا عن لسان أنطون سعادة أنه صرّح لهم بأنه يعتزم أن يأخذ إجازة من العمل الحزبي لسنتين كي يتسـنى له وضع كتب في أفكـاره الفلسفية الاجتماعية الاقتصـادية وكان هذا بعد عودته من مغتربه القسري عن لبنان أي تصريحاته لرفقائه بين عامي 1949 – 1947 وقد قرأت كتابا أواخر السبعينيات للكاتب عبد الله قبرصي بعنوان عبد الله قبرصي يتذكر ( وهو أحد أهم تلاميذ سعادة ) وذكر هذه الأمنيات لا بل ذكر أن سعادة كانت تشغله كثيرا ويقول يجب أن أخصص للاقتصاد القومي وقتا وللفلسفة وقتا ، ولكن سعادة عاجلته الأحداث السياسية والمغامرة الكبرى التي أودت بحياته عام 1949 وظلت أمنياته في إطار الأمنيات ، وبعد رحيل سعادة شعر كثير من مفكري الحزب بهذا الفراغ فأخذوا يحاولون ملء النقص ولكنهم اختلفوا في الرؤية ولم يعتمد الحزب أيا من تلك الأفكار واعتبرت كلها دراسات في الاقتصاد أو في الفلسفة ولكن الاجتهادات قليلة . . ولذا بعد أن جمع تقريبا كل تراث سعادة ونشرت أخيرا في اثني عشر مجلدا تحت عنوان ( أنطون سعادة : الأعمال الكاملة ) تضم هذه المجلدات كتاباته قبل تأسيس الحزب وبعد التأسيس أي كل ما كتب من مقالات وكتب وغيرها من محاضرات وخطابات وحتى رسائل وكانت عمدة الثقافة في الحزب قد حاولت على فترات نشر الأعمال الكاملة ولكنها كانت تظل ناقصة لأن سعادة عاش حياة لا استقرار فيها ما بين البرازيل ولبنان ودمشق ( قليلا ) والأرجنتين ومن ثم لبنان وكتب في صحف عديدة في تلك البلدان وأسس صحفا هو نفسه فضلا عن الصحيفة الحزبية في بيروت التي كان يرسل لها من الأرجنتين وذلك في فترة ما بين عام 1938 و 1947 وبعد إعدام أنطون سعادة عام 1949 كما ذكرنا آنفا وملاحقة قيادات الحزب من الحكومة في لبنان حيث كان مركز الحزب في بيروت طالت تلك الملاحقات بعضا من تراث سعادة وفقد بعض من ملفات المجلة التي يصدرها الحزب وتم إثرها انتقال مركز الحزب إلى دمشق بعد الانقلاب العسكري على الرئيس السوري حسني الزعيم بسبب تسليم أنطون سعادة للحكومة اللبنانية وتم على أثرها فورا إعدام سعادة ( وسآتي على ذكرها في حينه ) …………….
أقول بعد انتقال الحزب بمن نجا من قيادته من السجن التي هربت إلى دمشق وبعد أن صارت دمشق مركزه ( ما بين 1950 وعام 1955 ) بدأ بعض المهتمين بجمع آثار سعادة ولكن لم يكتمل الجمع لظروف سياسية محلية وأنترنسيونية . . . وفي هذا قامت عمدة الثقافة بنشر أعمال سعادة وعلى عدة محاولات وكما قلت ظل يعتريها النقص وخاصة أن الحزب انقسم من رأس الهرم إلى القاعدة في الخمسينيات على إثر اغتيال المرحوم عدنان المالكي الضابط الكبير في الأركان السورية واتهام أعضاء من الحزب السوري القومي الاجتماعي ( حزب سعادة ) باغتياله ، وهذا الانقسام حال دون نشر كل فكر سعادة وكتاباته إذ استأثر كل شق بما لديه ومنعه عن الشق الآخر فقد صار حزب سعادة حزبين ، وكل ينشر ما لديه وعاد الحزب يتعرض للانشقاق في عام 1974 وجاءت الحرب الأهلية في لبنان ومن بعدها الاجتياح الإسرائيلي الأول عام 1978 وتتالت التوترات الدائمة ولكن أخيرا تم تأسيس مؤسسة سعادة الثقافية أواخر القرن المنصرم وقامت هذه المؤسسة بعمل جماعي من المحققين المتخصصين والباحثين وتم جمع كتابات سعادة كلها تقريبا وصدرت باثني عشر مجلدا كما سبق وقسمت هذه الكتب حسب تواريخ مراحل الكتابة ولم تعد عناوين الكتب المعروفة التي صدرت سابقا موجودة فقد ضُمّنت في دفات الأعمال الكاملة وعلى الباحث أن يعود إلى كل مجلد بحسب الفترة الزمنية هذا من جهة وأما من جهة ثانية فإن الباحث مثلا عن أفكار سعادة في الفلسفة الاجتماعية مثلا عليه أن يبحث عنها في كل الكتب ليجمع منها مقالة من مجلد أو محاضرة من مجلد آخر وهكذا . . . ومن أهم ما قرأت في هذا الجانب الفكري ( الفلسفي الاجتماعي ) عند سعادة كتاب المفكر اللبناني ناصيف نصّار بعنوان ( طريق الاستقلال الفلسفي عند العرب ) الذي خصص جزءا من كتابه لفكر سعادة . . وكتاب المفكر اللبناني عادل ضاهر (المجتمع والإنسان ، دراسة في فلسفة أنطون سعادة ) فما هي فلسفة أنطون سعادة ؟ :
المدرحيّة :
( إن المدرحيّة عند سعادة تعني تمازج المادة والروح لا بشكل ثنائي بل بشكل تداخلي هو أشبه بمبدأ الشخصانية PERONNALISME إذ أن ” مادة زائد روح ” لا تعني مدرحيّة لأن هذا إضافة ، بينما سعادة قال بكلمة تفاعل متجانس أي أن المادة والروح تتفاعلان بتجانس ، فالقضية ليست صراعاً بل تفاعلا ، فالحيوية موجودة بشكلها الإيجابي ، ومستمرة استمرار الحياة نفسها وهذه لا تظهر إلا في المتحد الاجتماعي ويعرّف المدرحية ناصيف نصار بقوله ” هي تعيين لفكرة التفاعل في موضوع علاقة الروح والمادة بالنسبة إلى الحياة الاجتماعية وليس بالنسبة إلى الحياة الاجتماعية وليس بالنسبة إلى كينونة الإنسان الميتافيزيقية )
( أما عناصر المادة عند سعادة فهي الأسس التي تقوم عليها الأمة من خلال تشكُّل ” متحدها الاجتماعي ” وهي الأرض والبيئة ، الأسس البيولوجية للجماعة، في حين أن عناصر الروحية عند سعادة فهي غايات الأمة والدولة القومية أي القيم الأخلاقية والدينية ، الغايات السامية ، ومن تفاعل عناصر المادية والروحية تنبثق عناصر المدرحية وهي البنى الاقتصادية والمؤسسات السياسية والنظرة إلى الكون والحياة . )*
ويمكن أن أقول إن كتاب أنطون سعادة ( نشوء الأمم ) الذي ألفه وهو في غمرة الصراع والنضال وعمره لم يتجاوز الرابعة والثلاثين وكان أيامها رهن الاعتقال من قبل السلطات الفرنسية ( أي وضع الكتاب وهو في السجن ) يمكن أن يكون أساسا لفكره الفلسفي الاجتماعي حيث تقوم تلك الأفكار على مفهوم الإنسان _ المجتمع ، والمدرحية كلمة منحوتة مصطلح فلسفي جديد وضعه سعادة بدخوله في ميدان مسائل الفكر الإنساني الأساسية ليقيم عليه بناء دقيق القياس والتصميم من التماسك في الفكر ومن التعيين لمسار الفكر في عملية المعرفة .
فالـ . .
_ الإنسان _ المجتمع ليس الإنسان الاجتماعي
_ الإنسان _ المجتمع ليس الفرد المتفوق ، فرد الملكوت
_ الإنسان _ المجتمع ليس البطل الأخلاقي
_ الإنسان _ المجتمع ليس الإنسان الجديد
_ الإنسان _ المجتمع ليس مصطلحا أدبيا
_ الإنسان _ المجتمع ليس مصطلحا سياسيا
_ الإنسان _ المجتمع ليس مصطلحا خطابيا
_ الإنسان _ المجتمع ليس الإنسان النيتشوي ( نسبة إلى نيتشه ) كما راق لكثير من الكتاب أن يضعوا مفهوم سعادة للـ الإنسان _ المجتمع تحت تأثر سعادة بفلسفة نيتشه .
كل هذه التشويشات تاه في وضعها وافتراضها كثير من الذين قرأوا قراءة نصِفها بالسهولة والمجانية في استعمال مصطلحات فلسفية أساسية عند سعادة .
ولعل كما أسلفت أهم وأعمق كتاب كتب عن فلسفة سعادة هو كتاب د.عادل ضاهر ( المجتمع والإنسان ) ومما أعطى عادل ضاهر المصداقية أنه ليس من أعضاء حزب سعادة ولا يقوم الكتاب بدراسة دعائية بل بشرح وتوضيح واستنباط عميق لفكر سعادة الفلسفي ( المدرحيّة ) و ( الإنسان _ المجتمع ) وهو برأيي أهم من كل ما كتب عن فكر سعادة وأؤكد حتى ممن كتبوا عن فكر سعادة من مفكري الحزب أي تلاميذه وأتباعه .
وكتاب ( نشوء الأمم ) 1937 أول كتاب في علم الاجتماع بعد مقدمة ابن خلدون في اللغة العربية تضمن أبحاثا في علم السلالة ، في التاريخ ، في الأساس المادي للاجتماع وفي البناء النفسي الذي يقوم عليه ، في وحدة الجوهر والوجود ، في القيم ، في معنى الحقيقة وفي الحق والخير والجمال ، ولعل كتاب المحاضرات العشر الذي ختم به سعادة حياته كان قد شرح فيه الغموض الذي اكتنف بعض فكره في نشوء الأمم وفي غيره في هذا الاتجاه
( إذا قصد سعادة بكلمة ( مدرحية ) اعتبار الحياة الإنسانية هي مادّية روحية وبالتالي فهو يرفض أن الحياة مادة فقط كما يرفض الطوباوية الروحية ، وكلمة مادية كما يشرحها عادل ضاهر على ضوء فهمه العام لنظرة سعادة كما يلي :
1_ العوامل الضرورية لنشوء الإنسان بتطوره البيولوجي .
2_ العوامل الضرورية لنشوء الجماعة الإنسانية واكتساب الجماعة شخصية معينة .
3_ العوامل الضرورية لتطور الإنسان الاجتماعي .
والفئة الأولى والثانية من هذه العوامل تشتملان على عوامل فيزيائية بالمعنى المحض عوامل جغرافية بيولوجية بينما الفئة الثالثة تشتمل على العوامل الاقتصادية إلى جانب اشتمالها على العوامل البيولوجية .
أما كلمة روحية فهي ( الثقافة النفسية والبناء النفسي الذي يشير إليه سعادة .)
( ويطرح عادل ضاهر سؤالا : هل لنظرة سعادة المدرحيّة في الوجود الإنساني أي مضامين انطولوجية أو ميتافيزيقية ويجيب ضاهر بالنفي ، فسعادة لم يهتم قط بالواقع الانطولوجي للإنساني أي بما إذا كان الإنسان من الزاوية الأنطولوجية كائنا مادي الجوهر أو كائنا روحي الجوهر أو كائنا ذا جوهر مادي وروحي في آن معا .)*
وفي كتابه عادل ضاهر حول الرؤية الفلسفية لسعادة وجد أن سعادة لم يطلب المعرفة من أجل المعرفة بل من أجل العمل على تحقيق نهضة شاملة في وطنه ” الهلال الخصيب ”
وأما فكرة المصطلح الثاني ” المتحد الاجتماعي ” الذي وضعه سعادة فهو يعني أن البشر ينشأون في متحدات اجتماعية فأصغر متحد مثلا الحي أو القرية ومن ثم القرى الكبيرة وثم المدن وهكذا إلى أن تشكل هذه المتحدات متحدا أكبر هو المتحد الاجتماعي الكبير ( الأمة ) التي تكونت ضمن بيئة واحدة واضحة تفاعلت تفاعلا طويلا بين عدة شعوب فيما بينها من ناحية وبين بيئتها من ناحية أخرى مما يجعل لهذه الشخصية استقلالية وراثية في المتحد الاجتماعي .
وأنطون سعادة يرى أن المتحد الاجتماعي هو مجموعة أفراد تشدهم مصالح مادية وتربطهم وحدة نفسية تتجلى في النظر والفكر والاتجاه والموقف .
ولذا ركز سعادة على النحن بدل الأنا وأعطى الأسبقية للمجتمع لا للفرد ، ورأى أن النهضة القومية لا يمكن أن تتحقق إلا بوعي جمعي لذا كانت الدعوة دعوة اجتماعية والإنسان المجتمع هو الذي يصنع التاريخ من خلال وجوده ومعرفته وإذا كان الوجود هو حصيلة بيئة فإن معرفته هي حصيلة تاريخه وهي ليست بعيدة عن الطبيعة بل خاضعة لجدلية معينة مفادها أن الطبيعة تفعل بالإنسان فيرد الإنسان الفعلَ تحرّكا في اتجاه السيطرة عليها ضمن شروطها هي في البداية وبنجاحه ” النسبي ” في السيطرة عليها واستغلالها لمصلحته يخلق أوضاعا مادية جديدة لحياته وهكذا دواليك إلى أن يصل الإنسان لتحقيق أكثر مما يمكن من حاجاته بأقل جهد ممكن . )*
وفي هذا يقول سعادة في ( نشوء الأمم ) البيئة تقدم الإمكانيات لا الحتميات .
أنطون سعادة
4
من خلال قراءتي لتراث المرحوم أنطون سعادة المجموع في كتب ، السابق منها والأخيرة ، وجدت أن بعضا من كتبه تحمل عناوين وهي بالأصل مقالات جمعها هو نفسه وأضاف عليها ومن ثم طبعت في كتاب خلال حياته ككتاب ( جنون الخلود ) في الأدب وكتابه الشهير ( الصراع الفكري في الأدب السوري ) الذي كان أساس الحركة الحداثية في الشعر ( مجلة شعر ) وكتاب ( الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية ) وهذه الكتب بالذات بدأها سعادة كمقالات كما قلت يرد فيها على كتاب نقاد أو شعراء أو مفكرين وبعد أن تنتهي سلسلة هذه المقالات التي نشرت في صحف يعود إليها ويضبطها ويسد خلل الانقطاع التسلسلي فيها حيث كان بين المقالة والأخرى أسبوعان أو أكثر وهو منشغل في الأعمال الحزبية والسياسية والإدارية والكتابة في شتى أمور راهنة أو فكرية ، ولكن قارئ الكتب هذه الآن يدرك شمولية الرجل وموسوعيته الفكرية وهمومه التي أخذت كل وقته وهو بعث نهضة شاملة لكل شؤون الحياة الاجتماعية بما فيها الأدب .
ومما لا بد من قوله أيضا إن أنطون سعادة أخذ شاعرا أو كاتبا وسيلة فيما كتب ليرد عليه ويطرح من خلال هذا رؤيته وفكره وهو يرمي إلى نموذج في الفكر أو في الأدب ليعمم على هذا النموذج أفكاره في الأدب بشكل عام كمفكر له هدف حركي قومي اجتماعي سياسي ونهضوي شمولي لا كمفكر شغل نفسه بالفكر النظري المحض .
من هنا نراه في كتابه ( الصراع الفكري في الأدب السوري ) يرد على محمد حسين هيكل وعلى طه حسين وعلى محمود عباس العقاد وعلى أمين الريحاني وعلى الشاعر خليل مطران وعلى يوسف المعلوف وكذلك على الشاعر المهجري شفيق المعلوف ليوضح البلبلة النقدية عند هؤلاء ويطرح نظرياته في الشعر والأدب عموما .
والذي أود أن أتحدث عنه هو كتابه ( الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية )
والذي كتب مقالاته أنطون سعادة ما بين 22/1/1941 و 1/5/1942 وفي غمرة محاولات الاستقلال عن فرنسا وبريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية وما في تلك الأيام من حماس وتطلع عربي للاستقلال ، فمن العرب من كان يعتقد أن ألمانيا هي المخلّص ومنهم من كان ينظر باستغلال انكسار فرنسة وبريطانية في سنوات الحرب الأولى لإشعال ثورة ضد المستعمرين وذلك بمفهوم ديني إسلامي كون المجتمع السوري ( الهلال الخصيب ) في تركيبته الطائفية يتألف من أكثرية محمدية بالعموم ومن أقلية مسيحية في العموم أيضا ولأن الطائفية دائما في المجتمع نار كامنة تحت رماد بإمكان المستعمر تأجيجها كما حصل في ستينيات القرن التاسع عشر بين الدروز والمسيحيين ( الموارنة بشكل خاص ) وبما أنه أيضا كانت تسري دائما إشاعات أن المسيحيين في سوريا ولبنان مطمئنون وهادئون مع المستعمر الفرنسي بسبب روابط عقيدة الدين وربما يصل الأمر إلى التخوين ، وبالرغم من أن أكثر كبار رجالات النهضة في القرن التاسع عشر كانوا مسيحيين ولكن هذا لم يشفع لهم والحالة الاجتماعية العامة حالة أميّة وتخلف وتعصب ديني معزز بأفكار بعض الدعاة الإسلاميين من مخلفات الخلافة العثمانية ، وقد تحمس بعض الكتاب والشعراء المسيحيين لهذه الدعاوي فمنهم من أعلن إسلامه ومنهم من دعا إلى إدانة المسيح والمسيحية والمسيحيين كأتباع وكدين متسامح . . ومن هؤلاء كان الشاعر القروي( رشيد سليم الخوري ) الذي أخذت شهرته تنتشر في بلاد العرب كشاعر مهجري اعتنق الإسلام المحمدي ( لم يثبت اعتناقه للإسلام سوى بقصائده حسب ما يذكر كتّاب المهجر ) وليس ذلك كعقيدة يرجو بها الخلاص الأخروي الفردي بل اتخذها كهجاء للمسيحية والمسيح والمسيحيين العرب في قصائد انتشرت كالنار في الهشيم في الأوساط الشعبية في بلاد المشرق وبخاصة في الكيانين الشامي ( سوريا ) واللبناني ومنها :
إذا حاولت رفع الضيمِ فاضرب
بسيف محمدٍ واهجر يسـوعا
” أحبّوا بعضكم بعضاً ” وعظنا
بها ذئباً . . . فما نجّت قطيعا
—————-
و . .
والسيف لا عيسى ولا أضرابه
خلق ” الكمال ” لهم من النقصانِ
وبما أن أنطون سعادة هو بالأصل من الطائفة الأرثوذكسية المسيحية في لبنان ورجل صاحب دعوة قومية اجتماعية تدعو إلى فصل الدين عن الدولة وتأسيس دولة علمانية تعتمد العقل شرعها الأول ، ودعوة لإلغاء الحواجز الطائفية بين شعب الأمة بكامله على مفهوم الانتماء القومي الذي من أهم مقوماته الأرض
( البيئة أي إقليم الهلال الخصيب ) والإنسان أي ( الإنسان _ المجتمع ) فكان من الطبيعي أن يحارب سعادة هذه الدعاوى وتلك الإشاعات التي تصب الزيت على نيران الفتن المتربصة بالمجتمع ككل بل أكثر من ذلك فقد كان سعادة يلاحق كل هذه الدعاوي ويفندها ويناضل بقلمه وأفكاره وبحركته الاجتماعية السياسية لا لإطفائها فحسب بل لبعث البديل الفكري بنهضة ترمي إلى توحيد المجتمع بكل أطيافه ومذاهبه لا على أساس عرقي ولا على أساس قبلي ولا أساس طائفي ولا على أساس لغوي بل على أساس وجودي مجتمعي مشدود بمغناطيسية دورة الحياة في المجتمع القائمة على التفاعل الحياتي وعلى المصالح المادية الروحية ( المدرحية ) مصالح الأفراد والشعوب التي تمازجت في هذه البيئة . . وبنظرة موحد للحياة والكون والفن ، وسعادة يقول في إحدى محاضراته : ( نحن في الحركة السورية القومية الاجتماعية بطل أن نكون محمديين أو مسيحيين نحن سوريون قوميون اجتماعيون ، فقد شهدت هذه الأرض أديانا تهبط عليها من السماء وها هي الآن تشهد دينا جديدا يرفع النفوس بزوبعة حمراء من الأرض نحو السماء بأركانها الأربعة الحرية والواجب والقوة والنظام ، نحن لنا من هذه الناحية وجهة دينية يجب أن نفهمها ) ولكنه كان يؤكّد ويصر على أن هذا لا يعني إلغاء الأديان السماوية من المجتمع ويترك الحرية حرية الإيمان الديني لكل فرد بأن يؤمن بما يشاء بما يخص خلاصه ما بعد الموت ، أما في الشأن الاجتماعي فيريد إقامة نظام قائم على الأخوة المجتمعية بانتماء قومي أساسه وعي الأمة لذاتها قائم على حياة المجتمع ووحدته الكلية ، ورغم ما في هذه الأفكار من خيال وطوباية فقد حقق ذلك سعادة داخل تنظيمه الحزبي ، الذي ضم شبانا مخلصين من كافة الطوائف الدينية ومن كافة الأعراق المختلفة في بلاد الشام وجعل منهم أنموذجا واقعيا حيا لأفكاره الطوباية .
رميت من كل هذا الشرح والتفصيل أن أوضح سبب محاربة سعادة لكل ما يدعو للطائفية أو الفئوية داخل المجتمع السوري . . وقد كتب كتابا يرد فيه على الفكر الفئوي ويحمل عنوانا ( الانعزالية أفلست ) في لبنان ومن تلك الأيام المبكرة استشرف أن انتصار الانعزالية الطائفية في لبنان ستكون كارثة على الكيان اللبناني وعلى محيطه القومي ومن يومها قال سعادة ليس لهؤلاء في النهاية سوى الارتماء في حضن الصهيونية التي تسعى لتجميع اليهود في فلسطين
( قبل أن يكون للصهيونية دولة ) وهذا ما حصل إبان الحرب الأهلية بشكل غير قابل للشك وباعتراف من قادة بعض التنظيمات القائمة على فكر عزل لبنان عن سوريته ( حسب سعادة ) وعن عروبته وما يتبع . .
إذن كان كتابه ( الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية ) كتابا برهن فيه أن الدين المسيحي والدين المحمدي دينان لهما أصل واحد هو التوحيد وما التباين الموجود بينهما سوى تباين حضاري في البيئتين اللتين نزل بهما كل دين فالمسيحية كانت في سوريا حيث لا حاجة للتشريع بسبب وجود الدولة المدنية وما سبقها من تطور حضاري على الصعيد السياسي والقانوني بينما المحمدية في وسط الجزيرة العربية ذات البيئة الصحراوية والموزعة على قبائل تتنازع على عصبيات قبلية ولا دولة مركزية لها اقتضت أن تكون تلبية لحاجة سكان تلك البيئة من التشريع وما تلاه من تعاليم تفقه المجتمع حتى مبادئ النظافة ومختلف شؤون الحياة التي لا تخفى على أحد . .
ولكن سعادة لم يكتب لتقليل شأن الإسلام المحمدي لأنه درسه من الناحية التاريخية وبحيادية عقلانية لا من ناحية رفضه كدين جاء مع الفاتحين العرب بل بالعكس دلل في كتابه على وجهات النظر ذات الأصول الواحدة بين الإنجيل والقرآن وحتى بين القرآن والتوراة ولكنه رغم دراسته المقارنة لعلم الأديان استثنى اليهودية واليهود ( وهو يعترف أنها نشأت في الهلال الخصيب ) إلا أنها بسب من جمودها ووقوفها حائلا في وجه حياة تفاعل المجتمع ( باعتبارها نفسها شعب ” يهوه إله اليهود الخاص ” المختار ) وكل الشعوب حولها أقل من البشر في معتقدهم أقول لهذا السبب اعتبر سعادة أن اليهودية السلفية (وبتنظيمها الصهيونية ) ستكون عثرة في وجه حياة وتفاعل المجتمع الحالي ووحدته الاجتماعية ويقول : عندما يقبل اليهود أن يكونوا جزءا منفعلا في هذا المجتمع ولا يسعون لإقامة ( غيتو ) أو كانتون داخله فلا مشكلة بالأساس معهم ولكنه يشكك في حصول ذلك إلا على مستوى أفراد ولذلك اعتبر الحركة الصهيونية أكبر خطر على سورية كلها وعلى العالم العربي بأسره .
وفي هذا الكتاب الخطير ( على سعادة وعلى حزبه كما حصل فيما بعد ) يقول :
( ما من سوري إلا وهو مؤمن لله رب العالمين منّا من آمن لله بالإنجيل ومنا من آمن لله بالقرآن ومنا من آمن بالله بالحكمة ( الدروز ) وليس لنا من عدو يقاتلنا في ديننا وفي معتقدنا وفي وطننا وحقنا بالوجود سوى اليهود . . فاتقّوا الله واتركوا الحزبيّات الدينية ) …………….
أنطون سعادة
5