هو عنوان الكتاب الصادر منذ أيام عن دار فكر للأبحاث والنشر، من إعداد وترجمة الكاتب الصديق سمير جبور، المقيم في كندا، وقدم له الأمين الجزيل الاحترام فارس بدر.
في تقديمه للكتاب يقول الامين فارس بدر:
افترشت حياة انطون سعاده مساحة النصف الاول من القرن العشرين، بينما كانت تفترش فلسطين هجراتُ "المستوطنين" الاوائل الذين مارسوا اغتصاباً بطيئاً وقضماً متدرجاً للأرض تحت جنح ظلام الاستعمار الذي مارس " انتدابه " قهراً واضطهاداً وتنكيلاً وتهجيراً ضد سكان البلد الأصليين.
ناصره كثيرون وخاصمه كثيرون. لم يمالئ، ولم يهاود، ولم يهادن. هامته لم تنحن امام الشدائد والملمات، بل اختار الطريق الوعرة التي تجنّب سلوكها الكثيرون. لم يتكئ إلاّ على كبريائه. لقد كانت الحياة عنده " وقفة عز فقط ". وعندما جاء موعده مع الشهادة في 8 تموز / يوليو 1949، حضر الى موعده حاملاً دمه على كفّيه، حتى كادت جراحه تهزأ من جلاّديه.
كتب عنه الكثيرون وبمختلف اللغات. غير أن هذا الكتاب سيضع، أول مرة، بين يدي القارئ نصوصاً تُرجمت عن اللغة العبرية، كتبها مفكرون صهاينة على مراحل متعددة توزعت على عقود القرن العشرين. ويعود الفضل في ذلك إلى الأستاذ سمير جبور المفكر والباحث والكاتب الفلسطيني الذي أمضى عاماً كاملاً من البحث والتنقيب والتوثيق والترجمة من دون أن يتردد في تجشم عناء السفر الى فلسطين كي يكون على بيّنة من صحة المصادر والمراجع التي شكّلت مادة غنية لدراسته وأبحاثه.
هذا وقد بدأت الفكرة يوم لبّى الأستاذ سمير جبور دعوة " الجمعية الكندية السورية الثقافية " في مدينة تورنتو/ كندا لتغطية الندوة الفكرية التي تنظمها الجمعية سنوياً في الاول من آذار / مارس، ذكرى ولادة أنطون سعادة، والتي عُقدت تحت عنوان " أنطون سعادة بأقلام صهيونية". وقد لاقت ترحيباً كبيراً في الأوساط السياسية والثقافية في المدينة.
في إثر الندوة تواصل التداول في شأن أهمية الاضاءة على هذا الموضوع، باعتباره مادة خاماً لم يتناولها أحد سابقاً بالبحث، ونظراًَ إلى أهميتها السياسية، كونها تعاملت مع نتاج فكري صهيوني يحاول قراءة الفكر السوري القومي الاجتماعي باعتباره مشروعاً نقيضاً لمشروع الدولة اليهودية في فلسطين، اذ إن وعي أنطون سعادة قد تخدّش من مخالب المشروع الصهيوني منذ انطلاقته. ومَنْ تسنّى له الاطلاع على ادبيات الحركة السورية القومية الاجتماعية، يدرك بوضوح مكانة المسألة الفلسطينية في فكر أنطون سعادة ووجدانه، فقد افرد لها مساحة كبيرة من كتاباته ومؤلفاته وخطاباته ونضاله. وها هو في خطابه سنة 1947 يوم عودته الى الوطن يقول:
" أيها القوميون الاجتماعيون،
إن جهادنا يستمر، ويجب ان تذكروا دائماً أن فلسطين السورية، أن هذا الجناح السوري الجنوبي مهدد تهديداً خطراً جداً. إن إرادة القوميين الاجتماعيين هي إنقاذ فلسطين.. ولعلكم ستسمعون من يقول لكم إن في إنقاذ فلسطين حيفاً على لبنان واللبنانيين وأمراً لا دخل للبنان فيه. أقول لكم ان إنقاذ فلسطين أمر لبناني في الصميم، كما هو امر شامي في الصميم، كما هو امر فلسطيني في الصميم. إن الخطر اليهودي على فلسطين هو خطر على سورية كلها وعلى جميع الكيانات. وأعود فأقول إن هذه الكيانات يجب ان لا تكون حبوساً للأمة بل معاقل تتحصن فيها الأمة وتتحفز للوثوب منها على الطامعين في حقوقها ".
وهكذا يأتي هذا الجهد ليقدم نموذجاً لقراءة مفكرين صهاينة لفكر أنطون سعادة وسيرة نضاله، وللدور الذي قامت به الحركة السورية القومية الاجتماعية في سياق تاريخها في مواجهة المشروع الصهيوني.
تقديم الكتاب للأستاذ سمير جبور:
حظي مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، الزعيم الشهيد أنطون سعادة، باهتمام بالغ من جانب بعض الباحثين والمؤرخين والمفكرين الصهيونيين البارزين، كونه قائداً سياسياً ومصلحاً اجتماعياً ومفكراً مبدعاً، كرّس حياته لوضع اسس مشروع قومي متكامل، وضحّى بها على مذبح تحقيق فكرته السامية. وقد جاءت كتابات هؤلاء لتعكس هذه الحقيقة.
تولدت لديّ فكرة رصد كتابات الباحثين الصهيونيين هذه عندما رحت أبحث عن مكانة قضية فلسطين ( الجزء الجنوبي من سورية الطبيعية ) في فكر سعادة. وكان لا بد من التعرف على افكاره ومواقفه من المشروع الصهيوني. ولمّا حاولت تتبع موقف الحركة الصهيونية من مشروع سعادة ونظرتها اليه عثرت على مواد جمة كتبت باللغة العبرية.
ومما لفت انتباهي في الموقف الصهيوني تلك الدراسة المستفيضة التي وضعها إلياهو إيلات (.... ) خلال السبعينات مسجلاً انطباعاته عن سعادة ومشروعه من خلال معرفته الشخصية به في الجامعة الأميركية في بيروت.
والمعروف إن إيلات هذا كان ناشطاً صهيونياً، ولا يمكن اعتبار اهتمامه بنشاط مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، بتلك التفصيلات، إلاّ جزءاً من المهمات التي أسندت إليه بإعداد تقارير عن نشاطات الشخصيات السياسية العربية المؤثرة في السياسة العربية، وإرسالها إلى الأجهزة الصهيونية المعنية برصد جميع الحركات السياسية في الوطن العربي.
علاوة على ذلك، وجدتُ أن المكتبة العربية تفتقر إلى مصادر بالعربية تتناول ما كتب عن هذا المشروع القومي بأقلام صهيونية، وترصد نظرة الحركة الصهيونية الى مشروع وحدوي يتمثل في إقامة دولة علمانية ديمقراطية نقيضة لمشروع الحركة الصهيونية القائم على العنصرية والنزعة العسكرية العدوانية.
واللافت في كتابات المؤرخين الصهيونيين الاعتراف الضمني والصريح بأنه على الرغم من مرور أكثر من ستة عقود على إعدام سعادة، فإن حركته مستمرة و" أتباعه في تكاثر "، في حين ان كثيراً من الحركات السياسية اضمحل أو يكاد يختفي بعد غياب قادته.
وقد ارتأيت أن اعرض موقف الحركة الصهيونية من سعادة عبر مؤرخيها وكتّابها ومفكريها، وذلك بجمع اكبر كمية متاحة من المواد المكتوبة باللغة العبرية حصراً، وقمت بترجمتها كاملة، أو تلخيصها من دون تدخل في النصوص. وهذه المواد، بغزارتها، شهادة دامغة على أن الحركة الصهيونية، على الرغم من جهودها الرامية الى تفتيت الوطن العربي وتغذية الانقسامات الدينية والطائفية والإثنية فيه، لم تستطع تحقيق مرادها، فنواة الوحدة لا تزال متجسدة في مشروع سعادة، كونه يشكل رداً على المشروع الصهيوني التوسعي وتحدياً له، ولا سيما ان سعادة كان له موقف واضح من هذا المشروع الأخير. والانطباع المباشر الذي يمكن ان يخرج المرء به من تلك الكتابات هو ان النظرة الصهيونية الى إيديولوجيا سعادة وفكره تشكل اعترافاً ضمنياً بأن فكر سعادة ليس ملكاً للتاريخ والماضي وحسب، وإنما هو مُلك للحاضر والمستقبل، وهو يعبر عن تطلعات الجماهير العربية نحو الوحدة في كل وقت. فكان من الطبيعي أنه كان، ولا يزال، مصدر قلق واهتمام دائمين للحركة الصهيونية، ذلك بأن قيام الدولة العربية الكبرى هو وحده القادر على التصدي للدولة الصهيونية الكبرى المغتصبة للأرض والحقوق العربية.
ويجب ان نشير هنا إلى أن المصادر العبرية الأصلية حصراً استُخدمت لإصدار هذا المشروع النشري، كما ذكرنا، وتطلّب جمعها جهوداً كبيرة بسبب عدم توفرها هنا في كندا، والمتاح منها إلكترونياً شحيح. وهذا اقتضى مني احياناً السفر الى الوطن للحصول على شيء منها من بعض المكتبات الجامعية او معاهد البحث. أضف الى ذلك أنني توخيت منتهى الدقة في الترجمة من العبرية الى العربية على الرغم من ان الكتابة قديمة، وأحياناً لم تكن واضحة بالتصوير.
ولهذا لا يمكن القول إن هذه المواد هي تغطية كاملة لما كُتب عن سعادة ومشروعه في الأدبيات الصهيونية، عن دور الحركة الصهيونية في مقاومة هذا المشروع. ويمكن الافتراض أن هناك مزيداً في الأرشيفات الصهيونية، ولاسيما في الأرشيف الصهيوني المركزي، من اجل رسم صورة اكثر شمولية لهذا الدور.
أرجو أن أكون قد وفقت في تقديم هذه المساهمة للقارئ العربي كي يدرك مدى ما يشكله مشروع سعادة وفكره من منزلة وأهمية، حتى لدى الحركة الصهيونية المعادية للأماني الوحدوية العربية.