أحوال الناس بعد رمضان
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، وأمينه على وحيه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه، واقتفى أثره ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعــد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عزَّ وجلَّ، فتقوى الله هي وصيته سبحانه للأولين والآخرين، قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً [النساء:131].
عباد الله: بالأمس القريب كنتم في شهر رمضان المبارك شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، تصومون نهاره، وتقومون ليله، وتتقربون إلى ربكم بأنواع القربات، طمعاً في ثوابه، وخوفاً من عقابه، ثم انتهت تلك الأيام الفاضلة، والليالي المباركة، وقطعتم بها مرحلةً من حياتكم لن تعود إليكم أبداً، وإنما يبقى لكم ما أودعتموه فيها من خيرٍ أو شر: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8].
وهكذا كل أيام العمر مراحل تقطعونها يوماً بعد يوم، في طريقكم إلى الدار الآخرة، فهي تنقص من أعماركم وتقربكم من آجالكم، ويحفظ عليكم ما عملتموه فيها، لتجازوا عليه في الدار الآخرة: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران:28-30].......
أيها المسلمون: إنه وإن انقضى شهر رمضان المبارك، فإن عمل المسلم بطاعة ربه واستقامته على شريعة الإسلام ليس له نهايةٌ إلا عند الموت، قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].
قال الحسن البصري رحمه الله: [[لا يكون لعمل المؤمن أجلٌ دون الموت، ثم قرأ قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] ]]، وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
فاحذروا -عباد الله- من الرجوع إلى المعاصي بعد رمضان، فإن رب الشهور واحد، وبئس القوم من لا يعرفون الله إلا في رمضان، بئس القوم من لا يعرفون الله إلا في شهر واحد، مع التقصير والتفريط، ويعرضون عنه في أحد عشر شهراً.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- ولا تهدموا ما بنيتم في شهر رمضان من الأعمال الصالحة، فإن من علامة قبول الحسنة إتباعها بالحسنة، وإن الرجوع إلى المعاصي بعد التوبة منها أعظم جرماً وأشد إثماً مما كان قبل ذلك، وإن أمامكم ميزاناً توزن فيه حسناتكم وسيئاتكم: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:102-104].
أيها الإخوة في الله: إن الناظر المتأمل في حال كثيرٍ من المسلمين اليوم، بعد مضي شهر رمضان، يجد فرقاً شاسعاً، وبونا كبيراً بين حالهم في رمضان وحالهم بعده، وذلك أن المسلمين اليوم منقسمون بعد رمضان إلى أصنافٍ متعددة، فمنهم من استمر على طاعة الله، وتلاوة كتابه الكريم، والمحافظة على الصلوات وسائر العبادات، والبعد عن المحرمات، فهنيئاً له بقبول عمله، وهنيئاً له التأسي بـالسلف الصالح الذين كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهرٍ أخرى أن يتقبله منهم، فكل أوقاتهم عبادة.
ومن الناس -ويا للأسف الشديد- من كان صيام رمضان أثقل عليه من الجبال الرواسي ويتمنى بزوغ هلال شوال؛ لينطلق من وثاقه، تسيره شياطين الجن والإنس؛ ليعيث في الأرض فساداً، وينتقل من معصيةٍ إلى أخرى بدون وازع من دينٍ أو خلق، وما أكثر هؤلاء اليوم الذين أشربوا في قلوبهم حب المعاصي والمنكرات، وبغض الطاعات والقربات، والعياذ بالله.
فلم يكن لشهر رمضان أثرٌ في نفوسهم وقلوبهم، هجروا المساجد والمصاحف، وأقبلوا على شهواتهم وغفلاتهم، وفسادهم ومجونهم ولهوهم، هذا هو واقع كثيرٍ من أبناء الأمة الإسلامية، والمحسوبين عليها، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
إن هذا الواقع المؤلم لا يرضي إلا أعداء الإسلام، الذين يتربصون بنا الدوائر، ويتمنون انسلاخ أبناء المسلمين من دينهم وعقيدتهم، بل ويبذلون في سبيل ذلك كل غالٍ ورخيص، ووالله إنه ليحزن من كان في قلبه أدنى مثقال حبة خردلٍ من إيمان، فاتقوا الله -أيها المسلمون- واستقيموا على شريعة ربكم، واستمروا على طاعته، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ووجهوا أبناءكم ومن تحت أيديكم إلى طريق الرشاد.
واتقوا الله يا شباب الإسلام، فحافظوا على أوقاتكم، واعمروها بطاعة ربكم ولا تلهيكم الملهيات، فهي كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً.
واتقين الله أيتها النساء المسلمات، فاستقمن على طاعة الله، وقَرْن، قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33].
وليكن شهر الصيام ذا أثرٍ بالغ على نفوسكن، ولازمن الحياء والحشمة وغضّ البصر، واحذرنَ من مزاحمة الرجال في الأسواق والأماكن العامة، وإبداء الزينة لهم، وابتعدن عن التبرج والسفور وإظهار المفاتن، واقتدين بالصالحات السالفات من المؤمنات.
أيها المسلمون: لقد وصل الأمر بكثيرٍ من أبناء المسلمين -الذين خلت قلوبهم من الإيمان أو كادت، والذين انطفأت جذوة الغيرة الإسلامية في نفوسهم- أنهم يستغلون هذه الأيام، أيام العيد وما بعدها، بالسفر إلى بلاد المشركين، إلى بلاد الكفر والفساد والضلال بدعوى السياحة أو غيرها من الدعاوى المشبوهة، فيعيشون هناك بين ظهراني المشركين، بين دور الزنا والخلاعة، وبين بارات الخمور والمسكرات، مستبدلين بديار العقيدة، وديار الأخلاق والعفاف بلاد الكفر والفساد، وحيث إن هذا الأمر قد فشا في كثيرٍ من أبناء المسلمين وأسرهم؛ وجب التحذير من هذه الظاهرة لخطرها على الدين والأخلاق.
سائلين الله عزَّ وجلَّ أن يهدي ضال المسلمين وأن يوفقهم لما يحب ويرضى، اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، اللهم تقبَّل منا أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.......
لا تبدلوا نعمة الله كفراً